حين ينبض القلب شعراً مجموعة (تجليات عطشى - الشاعر حسين نهابة) - الناقد حمدي مخلف الحديثي
عندما تفيضُ الاحاسيس جياشة من نفس انسانية مرهقة, عاشقة, يكون الشعر ملاذاً تعبيرياً وغناء ذا نبرة خاصة, وجموح يعبر مديات اللغة, ليشتغل وفق شحنات العاطفة والشعور وهيام الوجدان, حينها يأتي الشعر رقيقاً صافياً, لا تهمه المغامرة اللغوية التي يذهب اليها العديد من الشعراء وهم يتخلون عن هواجسهم الانسانية.
والشاعر حسين نهابة في شعره هكذا, لم يكن عاديا, وهو ذو مخيلة متدفقة بالإحساس ولغة سلسة, وهو يمثل بشعره تلقائية عالية تلتقي بالقراء.
لقد قدم هذا الشاعر حسين نهابة, قصيدة النثر سجالاً، عشقاً وحواراً. وقد حظيت قصيدة نهابة بقبول رائع, حتى لدى الذين وقفوا بالضد في وقت محدد من شعره.
لعبة حسين نهابة الشعرية فيها اسرار لا يفكها الا ذو عقل متنور. قصائد, عناقيد من العنب, رمان, وتمر الحلة, وماء الفرات, وموج نهر دجلة.
والصورة الشعرية عنده ليست غريبة, وفيها مفاجأة الومضة التي تدهش القارئ.
ونقول, لا اعتقد باستطاعتي او باستطاعة اي ناقد ان يقف عند كل قصائد هذا الشاعر, لذا ستكون وقفتي عند كل مجموعة شعرية وعبر نماذج من قصائد كل مجموعة. واختصر صور من القصائد, وليست بكاملها.
عناوين القصائد:
(فجر التعاويذ, حزن المساء, رباه, ضياع, طريد, كسيح, عابر سبيل, استعباد, أعينيني, رائحة البرتقال, انطفاء الارق, اربعين التيه، انصفيني، تفاحة الخلد، قطيع الاحلام، عطر الانتماء، راعي الحقل, أحبيني, ضفيرة, علّكِ تعودين)
عدد العناوين: (20)
منها بمفردة واحدة عددها: (10)
بمفردتين عددها: (10)
نلاحظ تقارب بعض العناوين مثل (اعيينني, احييني, وكذلك ضياع, طريد, عابر سبيل...)
عناوين واضحة فيها تفاعلية مع وعي ابسط قارئ وتكشف عن مضامين النصوص ولم تتجاوز ملازمتها للنصوص.
أقول ما قاله الشاعر الناقد علي جعفر العلاق:
"هل يمكن لشاعر ما ان يأخذك إليه من اول قصيدة تقرأها له, ثم تزداد اشتباكاً معه مع كل قصيدة؟"(19)
وهذا حصل لي مع قصائد مجموعة (تجليات عطشى) لحسين نهابة.
مجموعة شعر ذات الحب والمرأة المتجلية، والآخر الذي قال فيه (جبار الكواز، "الآخر الذي ينطلق من بؤرة مركزية تتشظى خالقة دلالات ملونة ينتظمها خيط من الرؤية الواعية التي توصل القارئ إلى ادراكها من خلال تأويلها ارتباطياً مع راهنه الذي يعيشه"(٢٠)
من قصيدة ( فجر التعاويذ):
أكتبُ إليكِ يا وجعي
في هذا الوقتِ المُتكسّرِ من الصباح،
بين غِصةٍ وارتعاش،
سأثبُ وادعاً من ملاءتكِ،
فليس هناك راحلٌ غيري
الشخصية الشعرية الذكورية تخاطب -عبر ضمير المتكلم- الشخصية الأنثوية البعيدة وفي وقت الصباح، يكتب اليها آخر الكلام وهو الراحل.
هل رحيله أبدي؟
يبدو هذا من وجع الصورة الشعرية.
واعرِفُ جيداً، انني رجلٌ
يتسلّقُ عنقَ الطُموحِ أجيراً،
وانكِ امرأة لا تتمدد على أبسطة الحُلمِ،
ولا تستريحُ في ضبابِ حقائبِ المُسافرين،
مثلي.
يريد ان يحقق حلمه في الوصول الى مرتبة عليا ليكون رمزاً مجتمعياً علمياً ثقافياً، وهي لا تحلم كما يحلم، ولا تحب السفر كما يحب هو. خلية من المخاطبة والتذكير في انه سيكتب لها رسائل، وهي ستقرأ اذا بقيت على العهد والوفاء.
دلالات تعاويذ زمن الحب الذي لعب به الطموح، والطموح لا يصل اليه المرء الاّ بالتضحية.
فهل اعتذرت الشخصية الشعرية للشخصية الواقعية؟ وهل ذات الشاعر من ذات الشعر؟ ولا اصدق ان الشاعر في وقت كتابة القصيدة لم يحترق بنارها؟ وربما اطلق الآن مرات ومرات، علّ الصدى يعود لكن لا صدى يعلو بين طول المسافة، ولا صدى يتردد مع الاه.
ومن الواضح ان الشاعر في هذه القصيدة كان يعيش في كهف الندم. يبدو هذا. لكن الندم اخذه الزمن في الصورة الاخيرة للقصيدة دون الاعلان المُباشر عنه.
فأستعدي, يا امرأة كي تُواري نعشي
في بريدِ يومكِ الجديد.
من قصيدة (حزن المساء):
ما الذي يتبقى حين يكّرُ المغيب؟
ظِلٌ باهتٌ منكِ
وذكرياتٌ ماطرة،
وليكتمل حُزن المساء،
قال موريس بلانشو: "يلزم تعلم التفكير بألم"
ففي لحظة قراءاتي الاولى لقصيدة (حزن المساء) صعقني الم التفكير، والزمني موريس بلانشو في ان اتعلم، ومَن علمني، هو الشاعر حسين نهابة من خلال هذه القصيدة المُتعددة الجوانب: رومانسية، تعبيرية، مشحونة باللوعة ومفردات الحزن، الى جانب مفردات دينية اعتقد انها اول مرة هكذا تكون في الصور الشعرية العراقية.
وان الجرح الذي لازمني من (ذكريات ماطرة)... تلك الذكريات التي هطلت على الشاعر والشخصية الشعرية في مكان مجهول، وزمان غير مُعلن لكنهما من الماضي. مكان الحب والذي كان، وزمان العشق الذي لا يغيب رغم المغيب والظل الذي يحدثه هذا المغيب.
لِمَ مازِلتُ أرنو الى دُروب المساء المسكونة،
برجاء مُنكسر؟
إليكِ أيتها المقيمةُ في قلبِ الوجع،
أسكبُ في كأس الأُمنياتِ المُستحيلة
سنين غيابكِ العِجاف
وألتهمُ نخب انتظارك.
يمضي الشاعر في نشر وجعه عبر الذات الشعرية، وهو ينتظر. وقد طال الانتظار، والصبر لم يعد كما كان. ولولا احتراق القلب بنار الحب لما قرأنا هكذا قصيدة، ولا شبت في ارواحنا وخزات حب الشباب.
هذه المرأة المجهولة الهوية لها مكان في قلبين:
القلب الاول/قلب الشاعر
والقلب الثاني/قلب الشخصية الشعرية
وكلاهما من روح واحدة وجسد واحد.
أقيمي عليّ الصلاة
وبلليني بالصوم.
لا تخشي الجوع في زمنِ النبوءات،
لقد حول الشاعر مفردات (الصلاة، الصوم، والنبوءات) من واقعها الديني الى واقع رئوي شعري جديد، أطلق الومضة الشعرية التي سطعت عند عقل القارئ.
من قصيدة (ضياع)
ضائعٌ أنا
اينما أتلفتُ تتخطفني بحارٌ عطشى،
هل كان صوتُكِ من فلق البحر
وصاح بي
ألا أيها الهارِبُ من حتفك،
ومن ذاكرتك
هلّم إلي،
فزمن العبيدُ ضاع
وإنك قد بلغت أرض الوعد؟
وربما لا أقع في خطأ، اذا قلت ان الضائع هو الذي لا يعرف ماذا يفعل؟ ماذا يريد؟ لا مسكن لديه او عائلة تحويه؟
قد يكون هكذا...
لكن الضائع في هذه القصيدة هو المكلوم الفؤاد بسبب بُعد الحبيبة، وأين يمضي يجد نفسه كعبد في قصر الحب، وسيدته تلوعه بسوط الفراق.
من قصيدة (طريد)
بنفس زمن كتابة القصيدة السابقة (ضياع) هو زمن كتابة قصيدة (طريد) كونهما واحدة تكمل الأخرى.
أيتُها السماوات الشاسعة
يغفو الله فيكِ وحيداً،
دخيلٌ أنا عليكِ،
فهل من ملاذ لكسير؟
فيردُ عليّ صداي
كالنعيب
هل كان بومٌ غيري في هذا اليباب؟
وهل تصلحُ لغيري هذه اللعنات؟
ومَن غيري تردُ النار قربانه؟
ومَن غيري نحر أخاه؟
قصيدة مُشبعة بأسلة وتكرار مفردة السؤال (هل) الى جانب تكرار (ومَن غيري), وهذا التكرار جاء بإيقاع، لا بل ان التكرار هو ايقاع تألق به الشاعر المحاط بأضلاع الوجع.
وهو يسأل الآخر عن الذي تكون فيه اللعنات. طبعا لا أحد غيره. فأبرق الشاعر قصيدته الى القارئ من اجل ان يرد الجواب تأويلاً ويطلب من الله الرحمة والرفق.
فأرفق ايها الربُ بي
واقبل قُرباني
لأنزع الغلّ الذي أعماني
وأبصر وجه أخي،
مُدّ إليّ جُسور رحمتك
كي أعبُرني إلي
واهدم السور الذي
يفصُل عنّي عن عنّي.
موت ( صفاء) شقيق الشاعر حزن مستمر، مثل نهر فائض ومجراه صعب، فهل الله يرحم هذا المخلوق الذي تلبسه الشعر من ان يكون الشعر حافظة للروح؟
من قصيدة (أعينيني)
ذكرياتكِ تُحاصرُني من كلِ جانب
وكلُّ ضلعٍ في جسدي
ينوء تحت مُطاردات
عينيكِ الناعستين،
لا أعرِفُ اين أخبيء عنكِ
جُذوري،
ايتُها الجارية في عُروقي
وأورِدة مُخيلتي
والهادمة لحُصوني وقلاعي،
أعينيني.
مَن يقرأ هذه القصيدة بهدوء ويتفاعل مع موسيقى صورها، يكون في جو اغنية، يغنيها مبدع الغناء كاظم الساهر، ويكون الساهر بسببها في تألق الصوت... ولا يكون الساهر هو الذي يعطي التألق للقصيدة.
هو كما قلت عند قصيدة من قصائد هذه المجموعة ان الشخصية الشعرية مُحاصرة بذكريات كانت مع امرأة اعطت الحب بصدق.
لا تتهِميني بوفائي،
يا امرأة الفُصول
ولا تقولي إن قلبي
ملّ صمت المساء
لا تظنّي بأيماني،
يا سيدة الآلهة
ولا تقولي قد جفّ بروحي
نبعُ الصلوات
لكنّي، يا ربة المطر
وربة العُشب
وربة العُمر المُبحر في سنينه،
رجلٌ يحلُم بالسلام
وبامرأة تتكوّرُ بحُضنهِ
تحت خيمة الخريف،
الحب هنا يرادف حالة رجل يعيش في صومعة الحزن. موسيقى غناء الحب حلقت، وموسيقى الحزن خفتت وتغلبت الشخصية الشعرية على شخصية الشاعر.
الحلم عند رجل افضل من الجري خلف سراب. ولهذا جاءت لوعة الشخصية ممتلئة بحلم واحد، هو السلام. هل كانت بينهما الحرب؟
من قصيدة (أربعين التيه)
أنا صوتُ الراعي في واديكِ الخصيب
أهُشُ في سمائكِ سر الحياة
وأتعكزُ شفتيكِ الناعستين
وأنشُ بحرماني على عصافير الهجير
تتربصُ بعريشةِ الكُرومِ
غافية،
أقودُ قُطعان ضفائرِكِ
الى حُقولِ الياسمين
وأغنّي بصوتِ الناي الحزين
افاد الشاعر من واقع الراعي الذي يرى الاغنام ويهشها، والناي معه، وعرف كيف يخلق الصور الشعرية من هذا الواقع، وتكون من جواهر الشعر العراقي المعاصر/النثري من بعد العقد الثمانيني. والسرد الشعري هنا يفصح عن ذات الشاعر ومن خلال لغة صافية. وان حركة الشعر هنا حركة الحرية الذاتية بامتياز في ربوع الحب والعشق.
من قصيدة (تفاحة الخلد)
فجرٌ آخر يطلّ على نافذتي
وليس غير برد غُربتي
على السرير،
عبثاً أهُزُ في الفراغِ يدي
مُحاولةٌ أخيرةٌ للنهوض
لأعي اني لم أكُ مِسخا
وإني ما زِلتُ أنا،
هذا الكائن صغير الجُثة
كبير الأحلام،
نحن امام حقيقة مفادها ان الشخصية الشعرية تعيش في غربة قلقة، حزينة لا احد معها وتود ان يكون معها... لكن الفراغ، والسرير البارد، هما سلوة في هذه الغربة غربة الروح، قبل غربة الجسد.
هو الشاعر حسين نهابة يصارع روحه بروح الشعر وأحلامه ذكريات كانت، لكن الأحلام في وحشة الغربة... سراب...
- 22nd December 2018 (مشاهدة: 4860)