دراسة نقدية لديوان "طقوس ما بعد الأربعين" للشاعر العراقي حسين نهابة - بقلم: رشا غانم
أنت فكرة الوعد الذي لا يفي، يشرح ذلك قدومك الذي لا تأتي به إلاّ قليلا
هذا الديوان لم يضع المرأة تحت مجهر الرجل أو ربما تحت جناحه بل تحدث عن المرآة بصوتها من خلال صوته والدليل الاشارات اللغوية التي تحدث عنها الدكتور "مالك المطلبي" في بداية المقدمة التي كتبها عن ديوان "طقوس ما بعد الأربعين"، حتى مرّ على مرحلة دخول المرأة في الشعر حيث أنها بدأت بفكرة ثم طلل ثم بالأسماء المستعارة كسلمى لدى الشعراء القدامى ثم رمزاً وصولا لمصطلح الغزل الذي تمرسنا في القراءة فيه والوقوف عنده كباب محبب الى نفس القارئ والذي خصصت له أبواب في صفحات ودواوين الشعراء القدامى أخيرا ورود ذكرها عند من يهتم بقضاياها وحديثها الداخلي بمصطلح (شاعر المرأة) أي الوكيل الرسمي الذي يطالب بحق المرأة من خلال النص وهو الذي يحكي أكثر من اللازم عن حقها بالحياة وعن خلجاتها التي تخجل من البوح بها لأنها محظورة عن الكلام في نطاق ما, وفي رأيي كقارئة قبل الوظيفة النقدية بأن المرأة ليست بهذا المستوى المظلوم كما يخرجها النص الشعري أو النص الروائي بل هي أعمق من أن تتكبل بهذه السجون التي تفرضها على نفسها قبل ان تُفَرض عليها من اي ظلوم ما.
بل هي ظاهرة خاصة عند بعض النساء التي يمرقن في حياة الشاعر وفي تفاصيلهن زخم وأرق وتعب فيبدأن بالكلام حتى تتحول كل الفكر الى هاجس مخيف ألا وهو أين المرأة من المجتمع وربما أينها من الحياة وكأنها فاقدة لشروطها وهي ليست كذلك بالفعل بل هي قد لا تنير من وجهة ومن أخرى قد تكون كالشمس ساطعة فلا يجوز أن نبرز الليل ونهمل النهار الذي فيه المعاش .
فلا يجوز التعميم في النص الأدبي, والتكرار لذات الألم قد يحدث نوع من تحج صورة المرأة المضطهدة في خيال القارئ وهذا ما حرص الدكتور على اظهاره كظاهرة مملة تعاود نفسها في سطور شعراء العرب "المرأة موضوعا" وما هي موجودة كظاهرة غير عادية عند شاعر الرافدين "حسين نهابة" وكثيرا من الشعراء ما كتبوا في هذه السياقات حتى أصبحوا يحتفظوا بالشكل الشعري الملائم للنشر والأكثر رواجاً للشهرة في اختراق الثالوث المحرم والانكباب على المرأة وقضاياها.
وهذا ما يفسر النضوج المشوه لدى بعض الشعراء نسبة مع ظروفهم ولغتهم ومستواهم الكتابي.
أما من الناحية المتوازنة أو لنقل عنها سليمة في تشكلها ألا وهي صدق العبارة والتجربة الحقيقية والنص الذي يبعث في نفس القارئ العدوى الشعورية بحيث يصبح النص أقرب ما يكون لنا.
هي ما نفتقد لها بين صفوف المثقفين والمبدعين تحديداً ولا تخرج عادة الاّ من قلب مليء بالتجربة. وهذا هو الصديق "حسين نهابة" الذي تعرفت اليه من خلال النص قبل اللقاء، الذي لا ينفك عن المرأة الأم كما ينتمي اليها بكل ما تحمله الكلمة من انتماء لا يتحدث عن حقوقها بقدر ما يصل اليها من خلال روحه الشفافة الشاعرة والتي تحتوي الجنسين بقالب الذكورة الواحد وبعيداً عن الطبيعة الانسانية في حاجة كلاهما للآخر والتي درسناها في صفوف النقد والذي يظهر أثره في النص كتوارد صوتيهما بين السطور والانتقال المتناغم بمحورين متجسدان بروح واحدة لا تنفك عن الازدواج أو شعور كلا الجنسين بالأخر هي طبيعة مشتركة الا أنه قد يتلبس بالمرأة مثل شيطان ويحكي عنها بصوته كأنه أنثى تتكلم وهذه قمة البلوغ الشعري .
"حسين نهابة" يحتوي على عناصر الجنسين في قالبه فتارة تجده يتكلم بأدوات الذكورة وتارة تجده يتكلم بأدوات الأنوثة من غير أن يحدث منه التفات لذلك الخطب وله حظ في الذكورة والانوثة فمرة يشعر انه الغاصب ومرة يشعر بأنه البكر فهو متقمص للتجربة الشعورية وليس متحدث عنها.
أما سماء الابداع لا فضاء لها ولا حد يحدها والجدير بها جدير بشعوره ونقله لهذا الشعور وكنت أقرأ في صفحات الشاعر حسين كيف له أن يصبح جديرا بها لدرجة الالتصاق الروحي وصولا الى بلوغ القمة الشعورية كما لو أنه ان قصد بغداد فانه يقصد جميع اناث الأرض وان قصد امرأة تشعر كل الاناث انهن محور القصيدة ليس لأنه زير نساء بل لأن العاطفة الصدوقة تبعث العدوى الشعورية للقارئ فيشعر أن القصيدة قيلت من أجله , وهذا مبتغى الشعر خاصة في الشعر الحديث فمعيار النقد فضفاض لا ينكب على الصورة والشكل واللغة بل هو أعمق من القراءة بحد ذاتها فيه تصادم مع أصل الأشياء وبوادرها بل النقد قد يرى الحقائق في عريها ولشدة الحقيقة قد نكتب مثل هذه الدراسات ألا وهي معادلة (عاطفة صادقة وتجربة حقيقية + عين بصيرة تستلذ بنعماء النص = درس نقدي).
إلا أن هناك بعض القصائد هي بحد ذاتها ديوان وبعض الكلمات هي بحد ذاتها قصائد كثرة الايجاز والتكثيف والعبارة المشبعة الولهى هي زبدة ما نريده من الشع الحديث الذي يستهلك وقتاً كبيراً في الشرح وهذا ما نطمح اليه النص البليغ في النظم وفي التفكيك.
وقد أعجبتني مقولة قالها د. مالك في مقدمته، أنه حينما تتكرر المناسبة الشعرية عند الشعراء او حينما يطوفون جميعهم حول ذات الدائرة هم فعلا يجعلون من هذا العالم عالم مؤنث ويتكاثرون جداً لتخصيبه وهذه أكثر الجمل بلاغة في المقال وهو مقال ناضج جدا يحكي عن الحالة الغريبة التي يممر بها شعراء الحداثة حيث أنهم لا يمرون في مراحل الشعر الطبيعية بل يبلغون قمة الجبال دون التلذذ بالوقوع بشراك الكلمات خوفا من العجز .
وأعجبني أيضا بأنه كتب المسوغ الذي استفزه للكتابة عن هذه المجموعة من الشعراء هو بزوغها المفاجئ من غير ذي سبق وهو معنى تحول الشاعر الى أيقونة مهمة في الوطن العربي من خلال نجاحه الباهر ليس من خلال نصوصه بل من خلال كم مرة انتهك ما هو محظور الكلام عنه في الطبيعة المحكية على نحو المداعبة لا على نحو نقل التجربة الشعورية وهي أساس النص الشعري المكتوب. وهذا ما لا نطمح اليه كقراء واعيين على حقيقة الكتابة الناضجة أو الفن الأدبي الحقيقي وأشار أيشا عن الجاهزية في الشعر وهي التجهيز المسبق لكل شعور قد يتعرض اليه الكاتب أو الشاعر وعكس طبيعة الشاعر التي تمت دراستها في صفوف النقد والتحليل الشعري لأن الحب كالموت المفاجئ, والظرف لا محالة طارئ فكيف للشاعر العربي أن يكون على جاهزية في التدفق الشعوري الشعري الى هذا الحد.
ليست بداهة شعرية بل سذاجة في الشعور المستهلك تجعل من الشعر مجلة دورية.
هذا ما جعلني ألتفت للتعقيب على المقال الجميل " المرأة أنموذجا".
"طقوس ما بعد الأربعين"
سبق وأن كتبت في الشاعر العراقي "حسين نهابة" مقال نقدي مسبق حول ديوانه "تجليات عطشى" والآن سأتعرض للديوان الجديد في نقد يحتوي على الحديث حول المواضيع واللغة الشعرية التي يتمتع بها "حسين نهابة".
القصيدة الأولى "بغداد":
ليس جديداً القاء ثوب الأنوثة على الوطن الام، فحين قراءة قصيدة "بغداد" نجد أننا نلوذ على السياب وعلى العراق والقمر التائه بها طعم الغربة موجود في كل نصوص الأدب العراقي وان كانوا يقطنون بها فهم يجعلون من الوطن حبيبة مسلوبة الشعور والحنين فيبدأ الشاعر بالمواساة والتقبيل والتبجيل لكل حجر تحتويه بلاده المضطهدة وتصبيرها على هذا الواقع. اذن الفكرة سابقة ولكن لغة "حسين نهابة" لا تكرر ولا تشبه لغات السابقين لأنها غزلية باعتدال وموزونة بنسق موسيقي فقال:
عيناكِ لهفةُ مَحروم،
تَكالبتْ عليه ذئابُ ذكريات،
ولم يَعد يَقوى على الفِكاك،
عيناكِ واحةٌ عَذراء
يستفيقُ معها الفَجر مُبتهلاً،
في مقهى عابر،
على مَفرق ما، في طريقٍ طَويل
في هذه السطور وحتى فيما قبلها قرأت العبارة الرهيبة الموزونة قطعا التي تثير في النفس حاسة التدبر والاسستمتاع كأنها عقد فريد خاصة حينما قال:
عيناكِ، سُفن مُعذبة
تَنقلُ بين دفتيها عَبيداً وكلاما،
عَصية، تُعلن تَمردها دون رَحمة
للخَلاصِ من مَلاحٍّ مُتمرس
على الوعود.
المَرايا في حَضرتكِ، عَدم،
ولا مَلامحَ تَشقّ دَرب الرَحيل،
برؤوسها المَصلوبة على مَناسكِ الصَبر.
فيها تيه الرجل الرجل الأربعيني على كل ما فاته وكل ما سيفوته واقع بين الحق والخيال هل سيصبح الخوف عادة من عاداته.
وأكثر ما يلفت في القصيدة هو لفظة "الوجع البربري"
فيها يختصر الحرب والعبء المراد في سطور القصيدة وربما قد تختصر بها القصيدة وهذا ما يتميز به "حسين نهابة" العبارة الثكلى بالمعنى.
أما فيما يخص "حسين نهابة" مع المرأة فهو أوسع من أن يكون شاعر المرأة الذي يحكي في قضاياها وأشمل من أن نقول عنه يحب المرأة فلا يتحدث عن سواها فقط أراه كصديق وشاعر هو رجل أكثر احساساً من غيره في النظرة التي أوهبها الله تعالى له فهو يرى من كل محور العين ليس من زاوية واحدة بل اشعاعات عينه قد تغطي الصورة في التعمن بالتفاصيل الخبية لذلك نجد ععباراته تفيض في المعنى وهذا ما أراه أنا كقارئة عين الشاعر التي ترى الأشياء على حقيقتها دون تزييف ولكن درجة الحقيقة تتفاوت من عين لأخرى, وبالمقابل أنا لا احمل "حسين نهابة" أو حتى نصوصه أكثر من اللازم في التعقيد التركيبي والكتابي حتى لا يفقد النص شهيته في الكلام, وبحسب الصبغة الشعرية والثقافة الواسعة فمن الطبيعي وجود حالة التمرد والتفرد وحب المرأة غير التقليدية ليس فقط في الحب بل بالوجود الكامل لها , وبالتالي الكتابة عنها تحتاج الاستفزاز في غير ما هو متاح.
قصة ولادته كشاعر تشبه قصة ولادة شعراء كثيرة, أمه التي تعشق أباه وجدت في عيني ذلك الصبي الصغير الرجل الميت كأن تسمي الصبي على اسم أبيه وهذا حلم كل امأة مات عنها زوجها كأن يصف طقوس الولادة دون أن يدركها وفي ذلك اختلاط النفس بالكتابة ورجوع الفرد لبدابات خلقه رغبة نفسية في التحليل الكتابي وفي توارد الفكرة, لكنه يذكر مثل هذه العبارات فقط في صدق اللقاء أ وفي صدق نوادر الحنين كأن يقشعر للحب مرة فيذكر لحظة بكائه الأولى كطفل يتيم لأن الحب الصادق هو من يذكرك أنك بين أمك وأبيك وأنا بين ذراعي امرأة تجهل وطنها, هذا هو الحب يجعلك تصطدم بشيء ما يجعلك تدرك ماهية وجودك الأولى.
وهذا أجمل ما وصلني من قراءة قصيدة "شهقة الفقدان" وفيها عدم الاعتراف في قبول مشقة الأربعين في التخطي الى الأمام أو الرجوع الى ما فات لأنه كلما ارتطم بالحب يحدث تبادل الأعمار مثل ثوب يخيط نفسه كأن يبادل الحبيبة أربعينيته وتعطيه زهو ما تخبأه بها فيختلط الحابل في النابل.
وكثيرا ما قرأت في نصوصه اعادة الحياة فهو في أمل مستمر لكل ما فاته واله الخصب لديه شيء لا ينفك عنه وان كان لا يعبده فهو يشعره بالحياة. حتى حركة العصافير تثير في نفسه توارد الأماكن ووجود فعل الحياة في كل وقت فيظل من إثرها الأمل يكتب حتى نهاية المكان لأن الشعور لا ينتهي, وفي قمة بلوغه الشعري قرأت في نصوصه شدة تأثير المرأة عليه خاصة ان نطقت، فقد تستجيب لها الجمادات ليس فقط "حسين نهابة" لأنها ساحرة في الوجود لكل ما هو حولها ليس فقط في روع الشاعر وهذا تعد لفكرة قبولها في غيهب النفس بل هي في عمق الطبيعية الذكورية والأنثوية الخاضعة للتجربة الشعورية.
لا تكوني امرأة تقليدية
فلستُ الرجل الذي تُغْريه النِساءُ الخَجولات
بشفاههنَ المُتورِدة
والضفائرِ الذهبية،
أنا انْكِسارٌ جاءَ من غبار الحُزنِ
ومن شَهقةِ الفُقدان،
في ليلٍ مِثل شَعركِ
بلونِ الفجيعة.
أنا رَجلٌ تَمخضتهُ أمُهُ في زَمنٍ
يُشبهُ عَينيكِ،
غارِقٌ بالدَمعِ وبالقهرِ،
قَمّطتهُ بالكفن،
وسَجّتهُ يومَ حَمّلتهُ اسمَ أبيه الميت.
الوحشة في صوتكِ،
مِدادي
والشِراعُ المُنكسرُ على أهدابكِ،
يتهتكُ
في تيْه سنيني.
لا تكوني معي امرأة تقليدية
وتزعمي أني كبرتُ
وأن هذه القِصص لم تَعُدْ لنا،
ظَلّ معي طِفلة،
ودعي المجنون فيَّ
يُحّدثُكِ عن ليلِ احتراقِه
وفي قصيدة "رجولة ممتهنة" حدث معي سجال داخلي أثناء القراءة بين الصدق والكذب وأضحكتني جداً لشدة عذوبتها كأن تكون تستمع الى الراديو أغنية القيصر "ما الحل".
احترتُ معكِ،
أبْتسمُ، تَغتالني غيرتكِ غير المُبررة
أعْبسُ، تَستنفرينَ غاباتِ إنوثتكِ
المُدججةِ، لامْتهاني
وإسْقاطي من خَطيئة الرُّجولة
تارةً، أهزُ ذيلَ الطاعةِ مُرغماً
كي لا تَتهاوى مُدنٌ بَنيناها معاً
تحت وابلِ الهَزيمة
احترتُ معكِ،
مع أولى صَخاتِ الصَباح،
أتلقفُ مَلهوفاً صَنارات الهاتف،
لعلي أجدُ منكِ ما يُهدّئ حرماني،
في ليلٍ بهيم.
أما خرافة الاطمئنان هي مناط الكلام عند الشعراء حيث أنه لا مجال للاطمئنان لا في الوجود الحقيقي ولا في الوجود المعنوي ولا في الحقل الشعري فتبدأ لديه حالة القلق حتى يصل به الأمر ان وجوده يثير في نفسه القلق. لننظر ماذا قال "حسين نهابة" في قصيدة "قوافل القلق":
ما الذي يتبقى مني حين يُغادرني المطر؟
أي أثر للخِصبِ يتبقى فيَّ،
أية خميلة ستستوقفكِ،
تُحاكين عِطرها وتتنَفّسيني؟
أي رجل أكونه حين تصدّين عني؟
ما قيمة الأنبياء بلا مُعجزاتهم،
أية كرامة تتبقى لهم؟
كثيرا ما قرأت في سطورها وصف لحالة الحرمان والقلق المتعب في كل ما يقع عليه نظره في وجودها من عدمه كأن تكون قوة الشاعر في اثبات هويته وشبه ذلك بحالة المعجزة عند الأنبياء .
ولكنني كقارئة لا أقف طويلا عند مثل هذه النصوص لأن التعب الذي يكون فيها هي حالة تعب مكررة مللت من إعادة وضع عقلي في تكرار ذات الشعور عند كل شعراء الحداثة ومن قبلهم مثل "نزار قباني" في بعض قصائده الجميلة في التركيب والمكررة لذات المعنى (حالة حب عابرة) نتخلص من وجعها في حال انتهاء القصيدة .
تخلص من هذا الشعور ثم عاد ونهض لحب أعطاه الحياة فقال في "سندباد رحلتها":
وقيل عني أني سأكون الرجلَ الأعظم،
اذا ما تخليتُ عنكِ
وقيل أني سأكون الرجلَ الأفضل،
أذا ما أقتلعتُ من عيوني وجهكِ
وقيل أيضاً أني الأكمل بلاكِ، والأجملُ
وقلتُ عني أني قادرٌ
يا امرأة الفصلَ الأخير والأول
أن أمحو من تاريخي، سطركِ
غير المنتهي.
مرحلة حب طبيعية، حدوث القوة بعد حصول الانخماد وهذا شيء لا يصعب التكهن به عند شاعر يشعر بالحب في كل لحظة.
ثم عاد لركوده وتيهه الذي لا ينفك عنه وقال في قصيدة "تيه ونيف":
تَيْهٌ ونيف مَضى، وما زِلتُ كما أنا
أحلمُ بالعودةِ وسَلامٌ لن يأتي،
سَلامٌ اشتَهيه على وَجْهِ ساعي البَريد
يُعلنُ كل رَمق،
عن وصولِ رَسائل مُواربَة
تُشفقُ على كولونيلٍ مُتقاعد
يَفترشُ ماضياً، لن يعود،
أنتظرها بين مَحطاتِ العُمر المُؤجل
لـ "غودو" لم يُكاتِبهُ أحدٌ من قَبل،
وأعودُ حاملاً وصايا الأقدمينَ، ما أثقلها!
وصولا الى قصيدة "قلب اللامكان":
إن امرأة في بلادي
تُهاجرُ اليها الطُيور
ووحدها امرأة في بلادي
تقرؤني في سُطور.
رفعَ رايتهُ الخَضراء تلك الى السماء
وقال:
أيتها المُتناهيةُ الغِياب
هل ستؤمنينَ بي بعد الآن؟
لا عجب بأن تكون هذه القصيدة تحدث فيها بلسان غيره وفقا لانسانيته المُفرطة وحبه للشعور مكان كل القلوب التي تمر به. شعرت من قراءة السطور بأن التجربة الشعورية تحكي عن غيره.
وقال في اخفاء الهوية التي ذكرها في بداية القصيدة:
أنا الذي أنكرَ بطنَ أمه،
وأخفى اسمَ أبيه،
وأنكرَ ظِله
وصارت مُحرّمةٌ عليه أرضه؟
وهذا في رأيي أعظم ما قيل في القصيدة لانه استطاع عبور الهم أي كان سببه دون التخلي عن أصل وجوده مهما كان عدمه.
وفي قصيدة "أنا شبعك المجنون" اقول انه أجمل عنوان في الديوان لكن محتواه ليس الأفضل، وهناك ما هو أعمق. وفي نظر القارئ السطحي يجد في العنوان اشارات جنسية الا انها بعد القراءة وجدت بها توليفة دينية من حيث أنه مر على الأديان لا من حيث الالتفات اليها فقط بل من حيث كل ما يقع حقا مشكلة في كل دين بل ماهو موضوع نقاش عند كل منهم مثلا كموضوع التمائم عند المسلمين وابن الله في الدين المسيحي قد يراها السطحيين تجرأ على المحظور إلا أنها ليست أكثر من مجرد التفاتة. وأعجبني ايضاً في القصيدة فكرة تتابع الأنبياء ليس من حيث العمر الزمني لهم بل من حيث أكثرهم مصائب الدهر وقدرتهم على التحمل حتى وصل الى يوسف عليه السلام وهي القصة الأكثر تأثيراً في قلوب العامة فكيف اذ بقلب الشاعر ليس من ناحية "زليخة" وتعبها في الوصول الى مبتغاها بل بحزن أبيه عن أكثر ما أراد مجاورته وجه "يوسف" عليه السلام بقدر ما هي جميلة من حيث أنها أحسن القصص باسم التفضيل الذي ميزها عن كل ما سبقها وعن كل ما سيظهر بعدها.
لأني أبصرُ فيكِ عمر اغترابي،
رُدّي عليّ قميصكِ
كي أتعرفُ إليّ من جديد
كي تتعرف إليّ أمي وقابلتي
وكي يتعرف إليّ الله من جديد،
أنا الموغلُ في المُبهم
والمَخلوق في أمشاجِ النكرات
لا أنتمي لفصل،
لا يعرفني أي عَصر،
أنتِ وحدكِ كل انتمائي
وكل فصولي
ووحدكِ أنتِ
سيدةَ كل العُصور.
هذه اشارة الى التوسع الثقافي والانتماء الديني والتسامح.
ثم يعاود "حسين نهابة" الى الرجوعات النفسية أو الى ذكرى كل من مررن على قلبه ليس من باب زير النساء بل من باب القلب الذي لا ينام على كل شعور طرأ فيه وان طالت فترة غيابه في قصيدة صدفة التي مرت على معظم شعراء الحداثة.
ومثل أي شاعر لديه حساسة الحدس قال في قصيدة "غد لا يعرفني":
في الغد الذي لا أعرفه
ولا يعرفني،
سألمّني من دفاتركِ المُعتقة بإسمي
وأمضي،
حاملاً وجهكِ في حقيبةِ الدَمع الوحيدة،
واضعاً على قفلها ختم عُمري،
وكلمة بَوْحي غير المُعلنة.
تحدث مع المستقبل كأنه يراه ويصارعه وهذا هو قلب الشاعر الذي يرى الآتي ويسكت عنه وتخبره به الأنا التي تحتويه.
التناص عند "حسين نهابة", في قصيدة "قميصي المسعور" مثل توارد قصة "يوسف" عليه السلام التي قرأتها من باب اللذاذة الوقوفية للنصوص الشعرية ثم بدأت بالوقوف عليها كناقدة:
أفردي لي بضعةً من جَناحكِ،
فالجُبُ عَميق،
والسَيّارة تأبى ان تَلتقطَ،
قَميصي المَسعورَ بكِ.
وَعدتِني كثيراً،
ولم يتلبّسني حَريرُ الحُلمَ
بعد ذاك الوَداع،
العبرة هنا ليست بالقصة بحد ذاته وليست بسيدنا "يوسف" تحديداً العبرة هنا هي القميص هو محور القصيدة وعنوانها. القميص الذي جاؤوه به بدم كذب هو ذاك القميص المسعور مع اختلاف الظروف.
التصاق "حسين نهابة" بالأنثى ليس ضعف، ولست أصدر احكاماً لأني لم أشق عن قلبه هي علاقة مربوطة بالأمل والتجديد والولادة المتكررة.
في قصيدة "مذبح عينيك" لا يستنجد بأنوثتها ولا يظهر حاجته كرجل ولم يحاول التستر خلف ضعف الأنثى بقوة قلب الرجل هو يحكي عن حالة شعورية هو بحاجة اليها وهي موجودة عند العامة بشكل متكرر وعند الخاصة بشكل عميق, وهذا الشيء الذي يجعلني أرى "حسين نهابة" أكثر شفافية من غيره يرى الأنى بعين الصبر والعنفوان كبيرة عنده بوسع اللامكان, ومشكلة المرأة في الشعر الحديث هي مشكلة قلق واضطراب.
وصولا لقصيدة "طقوس ما بعد الأربعين" التي تحمل عنوان الديوان وهي حرفة الشاعر ومصب خلجاته وعادة ما تكون الأكثر شهوة للقراءة وأنا أحب أن أتتبعه مثل هذه القصائد في كل ديوان لأنها مرهقة في التحليل والتفكيك البنيوي واللغوي للذاذة عباراتها المُكللة بالعفوية الشعرية والمتانة اللغوية:
مُذ حدثتني جنية مارقة
في درب عودتي من المدرسة،
عن حورية في قاع النهر تقيم،
وأنا أقاتل انجذابي الى كل زنبقة،
وأنازع رغبتي في الغرق.
مذ قالت لي تلك المشعوذة
أنكِ تحت جلدي تعيشين
وأنا ألاحق نفسي الهاربة إليكِ،
وأقاتل عصافير الغواية
كي أستعيدني منكِ.
*******
منذُ أربعينَ حَوْل، يا سيدتي المُتخفية
بهيئات مُختلفة،
وأنا أكتبُ لكِ، كُتبَ التسليم والوَلاء،
وأغرقُ نفسي بعطورِ الأنبياء،
علّكِ تتقبلينني قُرباناً أخيرا.
فيها متعة تفتيت الرموز وبدأها الشاعر منذ الولادة وليس من سن الأربعين الذي قصد هو رجع يبحث عن كيف جاء من العدم ليعود الى العدم فعبر عنها باعتناق الزنابق, حيث أخبرته بذلك جنية هي ذات الجنية عند شعراء الحداثة.
هنا القضية أعمق من سن الأربعين بل هي قضية كيف وصل به الحال الى نضج لم يعش تفاصيل ما قبله نضوج به شرخ بسبب الحرب والحب أساب الشيخوخة في الشعر.
وفي مرحلة ما سيجد أنه مهما اختلفت عليه نساء الأرض سيعرفهن حيث قال:
بأيةِ صورةٍ، إظهري لي
سأعرفكِ،
من عِطركِ على ياقةِ قَميصي،
من بقايا الكُحلِ الذي عَلقَ في يدي،
سأعرفكِ من صوتكِ الطفل العالق في أذني
من مَكتوبكِ الخَجول،
والمُوقع بقبلةٍ لها لونُ دمي.
دعي كل سبل المعرفة لي
فقط تشكلي
سيعرف كل من ستطرأ عليه من الكحل أو من القميص أو من اللقاء أو الحب كلهن يستحقن هذه النبوءة فكلهن مهد لأول الشعور. وهي خبرة في النساء وتعمق جميل بالأنثى لا على سبيل المفاخرة بل على رجوع الفرع للأصل على سبيل الحنين.
العرافة في قصيدة "عبير رحمتك" أو قلب الشاعر هي آخر محاولات البحث وهي آخر مراحل الاهتراء العاطفي عند المحب في البحث عن الحقيقة:
نبأتني العرافة بقرب الثرى،
رفعت صاريتي المنكسرة ألماً
ونفختُ الهواء في أشرعتي المهترئة،
لعل على يديها تتقلب الأقدار
وتتأخر الآجال.
فتزداد عنده الطين بلة في سؤال العراف.
أحب في الشاعر "حسين نهابة" آلية استنطاق الحروف أو استنطاق الشعر بعيداً عن نطقه.
في قصيدة "منك تعلمت" وجدت أسلوب الالتفات من صوت الرجل الى صوت المرآة والعكس صحيح.
ظهر عنده النسق الموسيقي الذي يجعل من القصيدة أغنية فيها ترنم واستنجد جداً هنا كغريق في الحب بعبارات دلت على ذلك في العودة للقصيدة وهي "غصن زيتون":
من أي غيب قدمتِ
لتغرسي على أرضي اليباب هذا الجنون؟
من أنا
أمام عينيكِ من أكون؟
وفي قصيدة "ربان السفن المُنهكة" دهشة ووقوع الحب في دقائق، وذكرتني بالشاعر "نزار قباني" حين قال الحب يا حبيبتي قصيدة جميلة مكتوبة على القمر الحب مرسوم على جميع أوراق الشجر.
وآلية حدوثه سهلة وصعبة, فكيف ان اصطدم وجهه بامرأة ذكية تسلب ما تريد فيصبح هو من بحاجة لاسترداد حقه وليست هي من تعودنا أن نقرأ عنها تركض خلف خيال الرجل الشرقي فهو في حالة حضور شعري مستمرة كأن الكون ان خُلي من الحب سيجلب الحب الذي خلقه الله تعالى به وسيكون سيد الموقف ولا يرى سخفاً من ان تأخذ منه كبرياؤه كرجل شرقي يقاتل حتى يبقى الأقوى.
وفي مناطق التشخيص والتجريد في قصيدة "مدينة غائرة" تحدث باسم الجمادات واستنطقها وكان مثل كتاب الأيام فقال:
أنا مدينةٌ غائرةٌ في القِدم،
تفتح ذراعيها، عند قنديلِ المساء
لكلّ زائرٍ التهمهُ الحُزنُ
في سَرابِات سَلامٍ أبدي،
ولا يَهابُ في الحُبِ لومةَ لائم.
والحظوة في آخر القصائد والتي تحمل اسم "رشا ". كان ماهراً في كتابة صوت الأنثى الفاقدة لحبيب سلبه التراب من أجل حب تعاظم أمره فأصبح فرطا:
ماذا أكتبُ اليكِ يا وَجعي،
وكُل يمامة عنكِ تسألني.
لِمن سأكتب بعد الآن عنواني؟
ومَن يسمعُ غيركِ أشجاني؟
كيف أخرستُ أذنيّ عن سماع آهاتكِ المكتومة؟
كيف تأتى لهذا الكاسر،
ضميري الأسْوَد
أن يتيه في وحول أنانيته وينأى عن واحاتكِ؟
في النهاية وبكل موضوعية أنا كناقدة حاولت الالمام والابتعاد عن تشويه النص فأوقع به أو المغالاة في التعقيب والترصد لأن مهمة الشعر هو الرسالة ومهمة النقد هي قراءة هذه الرسالة.
رشا غانم
الزرقاء - الأردن
2 / 1 / 2016 – السبت
- 12th March 2018 (مشاهدة: 3093)