تشظي الذاكرة وانشطار الذات في نصوص "تجليات عطشى" - مهند صلاح
إن المحاولات العشوائية للقراءة تجعلنا نعيش منعطفاً لا إرادياً أمام لحظة الاختيار, وتشدنا لمراكز الوعي وهي تذيب في مسارها كل الخطوات التي لا تحمل في مسمياتها سوى اللهاث خلف نصوص تجرنا نحو الغياب الذاكراتي لذواتنا, وتبدأ بالاشتغال على المجسات الحسية لتخلق بالتالي مساحات كافية لكلا الطرفين (القارئ/الناص) ليترك كل منهما إيحاءه الخاص؛ هذا إذا ما اتفقنا على أن القارئ هو شريك حقيقي في وصول النص مهما كان شكله لمبتغاه. كالعادة؛ أصبح من الطبيعي اشتغال العديد من التجارب على تحريك ثيمة النص نحو مناطق النزاع الذاكراتي؛ وبالتالي هي عملية تأسيس لمشروع استعادة العديد من النصوص الخام, وتحويلها لمواد قابلة للتكوين الشعري؛ وهذا بحد ذاته يخلق بعداً محاذياً لعمليتي (الاجترار/التدوير) باعتبارها خزين معرفي لا يحتاج إلاّ لعمليات صناعة نصية تضاف لها نكهة الشعر. يحاول حسين نهابة في مجموعته (تجليات عطشى) أن يكسر هذا الجليد اللامتناهي العمق في خزينه الذاكراتي, ويُذيبه بإتقان ليحوله بالتالي الى محطات مبعثرة يمر عبر نوافذها لمخيلة القارئ؛ و بالتالي فهو هنا استطاع أن يخلق نصا محاذيا لنصوصه لدى القارئ أيضا؛ فهو أي (القارئ) يحمل أيضاً خزيناً ليس بحاجة إلاّ لإشعال فتيل ذوبانه ليكون جاهزاً للتوظيف داخل بعد النص المقروء؛ وهذا يحيلنا لسؤال الدهشة؛ الذي ينبثق لا إراديا على ضفاف المخيلة؛ كيف يمكن للنص أن يكون مفتاحاً خفياً لفتح أقفال الذاكرة؟ في نص (فجر التعاويذ) يبدأ نهابة بالولوج نحو القراءة التسلسلية لذاكرة المتلقي, وتحفيزها للاستمرار بالدفق نحو مناطق لم يمسسها العقل هرباً أو نسياناً؛ فقد جاء في جزء من نصه:
لكِ وحدكِ تفرّعت من خاصرتي،
طُقوس الكتابة
ومنكِ تمادت بُخور الدَواة،
قرابين كلمات فِدىً للغياب.
أكتبُ لكِ فجراً وغسقا
فلم تعد تعنيني الأزمنة،
كل أوراقي موصولةٌ بعقارِبكِ،
كيفما درتِ دارت
وأنّى أسْتكنتِ، أستكانتْ.
(فروع – طقوس – بخور – فجرا و غسقا – عقارب) جميعها مفردات دلالية على تحريك مناطق الذاكرة المغيبة. إنه لحد ما يقيم طقسه الخاص شعرياً, ويترك لذائقة التلقي أن تقيم طقوسها أيضا, وتسير معه يدا بيد نحو المحطة التالية التي لم يكن بحسبان الشاعر التخطيط لها؛ بل جعلها عائمة و متاحة أمام البعد الزمكاني لتدرج كتابة النصوص.
ففي نص (حزن المساء) يتركنا كمُتلقين أمام ترك رسائلنا على حافة (البعد الزماني) الذي أدرجه الناص قصداً عند مرآة النص؛ كي يتشظى في كبدها انعكاس رؤى القراءة. جاء في النص:
لِمَ مازِلتُ أرنو الى دُروب المساء المسكونة،
برجاء مُنكسر؟
إليكِ أيتها المقيمةُ في قلبِ الوجع،
أسكبُ في كأس الأُمنياتِ المُستحيلة
سنين غيابكِ العِجاف
وألتهمُ نخب انتظارك.
وأنتِ
ما فتئتِ تتأبطين المسافات
وكل أحلام الفرحِ واللقاء
أميرة تحفّها عُروشُ الرغبة والشوق
متوّجةً بالأغنيات
وبترانيمِ العشقِ الذي لا يموت.
إنه يزداد إصراراً على زج القارئ نحو مناطقه التي كانت مُزهرة يوما ما؛ و يحيله لكائن الرغبة الذي يُغذيه ببطء كي تنمو معه خطوات المسير؛ (الانكسار – الوجع – كأس الأمنيات – الانتظار – المسافات – الشوق – الأغنيات). إنه يتعمد وضع إصبعه على الجرح كي يجعله نازفا؛ بعد أن كان ساكنا و بعيدا عن ثورة الألم؛ يكثف دلالات مفرداته داخل بنية النص؛ كي يصنع مؤشراً نستدل به على المواويل التي سكن صوتها منذ زمن مضى؛ لينتقل بنا في نصه (رباه) نحو البعد الصوفي المستنجد بالإله عند وصولنا للحظة الضعف:
كَرْمُ محبتك ما زال حامضاً
لا يصلحُ للأفواهِ التي
ألفت طعم المرارة
وتعودت رشف الدماء،
حرّر كروان جنتك ليحط عند بساتيننا
وضّم تحت جناح رحمتك
هذا الوطن المُشتت،
حفهُ بملائكتك
ولوّنهُ بكل الفراشاتِ الساكنة
في قلبِ
اولاد يتطلعون لفجرِ ربيع لم يأتِ بعد.
يذكرني هذا النمط عبر التدرج بالنصوص خلال الخط البياني للقصة أو الرواية؛ إنه يفعل فعلته ويصيبها بشكل متقن؛ عندما يذهب بنا نحو العقد ثم الذرة؛ ليجعلنا أمام شغف حول نهاية هذا المطاف الشعري؛ لم أقصد هنا بنية الرواية باعتبارها سرداً؛ بل هو تدرجها نحو الذروة وفواصلها العقدية. و يمكن للقارئ ملاحظة ذلك بسهولة لو قرأ عناوين النصوص في المجموعة باعتبارها مداخل طبيعية للولج نحو ثيمة كل نص منها. إن حسين نهابة يمارس (لعبة) جميلة و يتحكم بعناصرها (القارئ/ذاكرته)؛ ففي نص (ضياع) يخرج الناص من جلباب الصوفية ليكون منغرساً في متاهات لا متناهية من الحيرة والألم والاشتياق؛ حيث يقول:
تشدّني مرآةُ عينيك الى الجحيم
وأكابرُ بكِ ما أوتيتُ مِنكِ،
أمدُ صوبكِ شراع مُسافر
فيكسرني موج الغياب
ويرّدني لضياع
ليل عابر.
فأنوحُ يا أنتِ
أينكِ في هذا العدم؟
هذا التشكيل الصوري الذي يضعنا في مأزقه الشاعر؛ يدعونا لسؤال (الدهشة)؛ هل هو قادر على شطر الذات الإنسانية وجعلها مُتشظية؟ بمعنى أدق؛ هل هو قادر على صناعة نسخ مغايرة على هامش النص؟ إنها لعبة اللغة؛ هي الوحيدة القادرة على ردع طاقة الواقع, وجعلها متجذرة في تحقيق صيرورة الحدث لدى القارئ؛ إنها تجعله مكثفاً أمام نافذة القراءة؛ علّه يطل على ما تشظى من مرآة أيامه عبر القراءة, و ينسج من جديد صورة أوضح.
في نصوص (طريد – كسيح – عابر سبيل – استعباد – أعينيني - رائحة البرتقال) يبدأ نهابة بتشكيل لوحته الخاصة التي يتخم بها كبد المجموعة ؛ وهو يعي جيداً لماذا تركها في هذا المكان منها؛ إنه يجيد محاورة عقل القارئ؛ يثير داخله فوضى من المشاعر, ويشتغل على مجساته العاطفية؛ ليلملمه بعد حين كتلة واحدة, ويأخذ به نحو نافذة العقل, ليشير له نحو طريق ذكرياته التي أسدل ستائر النسيان عليها؛ إنه يمارس مع القارئ طقوس العودة؛ ففي نص (عابر سبيل):
أُبارِزُ الريح إن أفزعتكِ
أُنازِعُ حبة المطرِ إن أقلقت حلمكِ،
أطرُد عنكِ الفراشاتِ الغيوراتِ
وكنتِ بين حنايا الروح تتشمسين
تتفتحين وتكبُرين،
حتى اذا ما أبصرتُ فيكِ عُمري
بكيت،
وحين هممتُ أن أضمكِ إليّ بعنفٍ
بكيت
هل كنتُ أعرِفُ اني سأفقدكِ؟
لقد ترك حسين نهابة في النصوص الأخيرة من مجموعته (تجليات عطشى) الأبواب مُشرعة أمام القارئ. ليته يكمل مشواره الخاص به لتوظيف ما قرأه داخل بنيته الحياتية, و يخرج من الفوضى العارمة التي تجتاحه لتحيله جثة تمثل دور الحياة. ففي نصوص (انطفاء الأرق – عطر الانتماء – راعي الحقل – احبيني – ضفيرة – علك تعودين) تنساب تجليات اللغة بشكل دراماتيكي؛ يسمح لها بتهيئة قداس القراءة ليكون معطاء بكل تفاصيله وخباياه. ففي نص (راعي الحقل):
كعاشقٍ خجول
أرقبكِ في صبحكِ
أضعُ الخِطط،
وأرسمُ الصدف،
سأتركُها لكِ على مقعدكِ المفضّل
قُرب النافِذة،
أو سيكونُ من الأفضل أن تقرئيها
وأنتِ تفتحين الجريدة
ربما حين تذهبين للدُكان القريب
من بيتكِ
سيكونُ لي مُتسعٌ
أن أُلقي بها في سلّتكِ الصغيرة
دون أن تنتبهي.
هذا المد اللامتناهي من الشعرية الذي نعيشه في هكذا نصوص؛ يحيلنا لقراءة واعية تبعث برسائلها نحو صندوق الجدوى دون الحاجة لساعي يناور على حسابها؛ إنها الدفق الحقيقي لنصوص اشتغلت على الثيمة الإنسانية؛ ومن الطبيعي أن تأخذ هذا الحجم من التميز.
من الجدير بالذكر ان مجموعة (تجليات عطشى) للشاعر والمترجم حسين نهابة؛ تقع في (120) صفحة من القطع المتوسط ؛ و هي صادرة عن دار ليندا في سوريا للعام 2014
- 3rd December 2018 (views: 2858)