أدباء عراقيون (الناقد عبد الجبار عباس 1941 - 1992) - الشنفرى

ولد الناقد عبد الجبار عباس في مدينة الحلة عام 1941 وتوفي في 3-12- 1992 وعندما يتحدث الدارس عن النقد العراقي الحديث سيجد من بين الاسماء المتميزة فيه هو الناقد عبد الجبار عباس. فقد انشغل هذا الناقد في أول عهده بكتابة الشعر، فأصدر ديوانا اسماه " اشواك الوردة الزرقاء" ولكنه لم يحقق فيه شيئا مهما، فانتبه نتيجة دراسته الجامعية للأدب العربي إلى أهمية النقد في الحياة الثقافية، حيث كان قارئا نهما للدوريات الثقافية خاصة الرسالة والكاتب المصريتين ثم مجلة الآدب لاحقا التي احتضنت نتاجه النقدي . ثم تابع بشغف الشاب المتطلع حركة الشعر العراقي الحديث، فكتب عام 1963مقالا في مجلة الاداب وهو ما يزال طالبا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب عن كتاب نازك الملائكة" قضايا الشعر الحديث" فاثار أعجابا،لدقته في المتابعة والرصد لحركة حديثة. ثم شغف بالسياب خصوصا فأصدر في عام" 1971 كتابه " بعنوان " السياب" وهو باكورة جهد نقدي متفرد حيث أنه الكتاب النقدي الجاد الذي خصص كله لشاعر واحد ومن مفرداته النقدية : البداية، والتضحية، وبين السياب وأليوت ، وأخيرا الموت. وكلها فصول تعامل السياب شعريا بها مع موضوعات كونية كبيرة. فوجد فكرة الموت مثلاً فكرة تنمو منذ بداية بواكيره الشعرية عندما ماتت أمه وهو طفل ثم موت جده ثم ابيه لينسحب هذا الموت القروي على موت الزرع والنماء والمطر. ثم تحدث عن فكرة التضحية التي تمتد من الإله تموز عندما نزل العالم السفلي وحتى موت السياب، مرورا بعشرات التضحيات في الديانات وفي المثيولوجيا. وهي الفكرة التي بنى الشعر العربي عليها لاحقا العلاقة بين الاسطورة والتراث والحداثة. ثم تحدث عبد الجبار عباس في كتابه عن السياب عن فكرة التجديد والانبعاث وهي الفكرة المحورية التي تؤمن بها الديانات ثم فكرة الحداثة، حداثة الايقاع وحداثة الصورة وحداثة البنية متزامنة مع النتاج الشعري العربي الذي بدأ في هذه المرحلة أعنى الستينات يطور أدواته المعرفية خارج أطر القصيدة التقليدية. وكل هذه المفردات جديدة على النقد العراقي.
وإذ يتنقل عبد الجبار عباس بين العمل في الصحافة والعمل النقدي الجاد نجده ييلتزم بما يكتب ويقول فقد وجد في الكتابة مسؤولية من يتفهم طبيعة الادب العراقي الشاب . ليصدر في عام 1970 كتابا مهما هو " مرايا على الطريق" وهو من أهم الكتب النقدية التي تعاملت مع النص لوحده بمعزل عن اي مرجعية لنقاد اخرين. وعن اية تنطعات نقدية مفترضة. حيث عالج فيه القصة والشعر والمقالة. وكأي ناقد حديث يجد في الادب المصري مادة نقدية لمقالاته. فكان إن كتب عن نجيب سرور وصلاح عبد الصبور ونجيب محفوظ ومن ثم غالب هلسا وأدورد الخراط ومن القدامى أبو شادي والعقاد والمازني وشوقي . وفي هذا الكتاب الذي لقي اهتماما جيدا في الاوساط الثقافية نجده " قلما متمكنا ورأيا وطيدا ويلم بأركان موضوعه المام العالم مهما اتسع ما بين بغداد والقاهرة أو بيروت وتونس" كما يقول الدكتور على جواد الطاهر عنه.
ثم كتب كتابا جديدا أخر أسماه " في النقد القصصي" صدر عام 1980 جامعا فيه نتاج عقد من الزمن يمثل كما يقول عنه " مرحلة مهمة من تجربتي النقدية فهو ثمرة حب لفن القصة وجهد لأن اعطي في نقد اشياء اطمئن لصحتها وقدرتها على التواصل"
تتلمذ الناقد عبد الجبار عباس على يد الناقد الدكتور علي جواد الطاهر فأخذ منه حسه الانطباعي في النقد. وهو حس كما يقول الطاهر عنه " فيه موهبة ووقفة واعية متأنية تدرك سر النص في أصالة وشخصية وذوق ورهافة وضمير يرعى الشكل كما يرعى المضمون متمكنا من عرض ما يتوصل إليه في لغة مستساغة وبناء متسق يتماسك طواعية ثمرة لاختمار في الذات بما لايحتاج معه إلى تسويد وتبييض لدى عارف بسر فن المقالة"
المعروف عن عبد الجبار عباس أن لم ينتم إلى أي جهة أو حزب. وعندما بدا في الكتابة النقدية عن الشعر كان يردفها باطلاع واسع على الادب العربي والاجنبي الموضوع منه والمترجم..
عمل في أواسط السبعينات في الإذاعة العراقية معدا لبرنامج الشعر بعدها عهد اليه أن يشرف على تصحيح لغة المقالات المذاعة ليتطور الأمر لاحقا إلى اشراكه في مشروع أرشيف القصة العراقية الذي تولت الاذاعة تنفيذه .منذ نشات القصة في العراق وحتى السبعينات وفي هذا المشروع قرأ عبد الجبار عباس أهم النتاج القصصي العراقي ووقف عند ابعاده وتنوعات فن القصة العراقية القصيرة. فخرج بحصيلة نقدية كبيرة مكنته لاحقا من ان يبني مقاله النقدي على خلفية ارشيفية وعلى قراءات متمعنة كثيرة. إلا إن هذا الأرشيف فقد بعد سنوات من الإذاعة في ظروف غامضة.
ولأنه لم يكن منتميا لحزب السلطة لم يبق في الاذاعة إلا فترة قصيرة. عمل بعدها في جريدة اسبوعية عادية هي جريدة الراصد. وفيها كان يحرر ركنا اسماه " الراصد الأدبي" حيث كانت مقالته القصيرة نافذة على أدب الشباب الذي يشرف عليه في هذه الجريدة وبقيت هذه المقالات القصيرة مجتمعة في دفتر صغير بعنوان " الراصد الأدبي" لم تطبع لحد الآن.
قدم عبد الجبار عباس كتابا آخر هو " الحبكة المنغمة" وصدر عام 1994 بعد وفاته بسنتين مقالات في نقد الشعر والقصة، قدم له الدكتور على جواد الطاهر وفيه يجمع كعادتة بين نقد الشعر ونقد القصة. وفي هذين الحقلين الكبيرين نجده يكتب عن مهدي البصير وعن كتاب الدكتور محسن اطيمش وعن قصائد حسين مردان وعبد القادر رشيد الناصري وعن الشعر الحر في العراق وفي ميدان القصة والرواية نجده يعالج روايات غائب طعمة فرمان والسفينة لجبرا إبراهيم جبرا وعدد كبير من القصص والروايات العراقية . فقد بقي كتابه الحبكة المنغمة سنوات طويلة أدراج مؤسسة الشؤون الثقافية لدى الدكتور محسن الموسوي . ولما جاء الناقد طراد الكبيسي بديلا لمحسن فتح أدراج المكتبة النقدية فوجد فيها عدة كتب لم تنشر بينها كتاب عبد الجبار عباس إن عبد الجبار عباس أولا واخيرا ناقد، وناقد حقيقي استثمر للنقد شؤونه الأخرى في الحياة والدراسة والثقافة والقراءة الواسعة والشعر والمقالةالمبدعة. استثمرها كلها وسخرها كلها لما له في أن يكون، ولما هو ميسر له. أنه فتى النقد الادبي في العراق حسب تعبير الطاهر عنه ، وأنه الناقد الذي حاز لقب الناقد بحق . ويكفي أنه وهب نفسه للنقد وحده..
قبيل وفاته كنت ممن أجد فيه محاورا رغم أنه قليل الكلام، كان ينظر للمثقفين التقدمين بأعجاب وحب كبيرين. وكان يقرا ضمن ما يقرا ادبيات سياسية. لكنه لم يجد فيها ضالته. ولهذا لم يلق اهتماما من قبل السلطة في العراق. من هنا نجد أن النقاد العراقيين الذين لم ينضوو كليا تحت عباءة السلطة لم تفتح لهم مجالات النشر للصحبة النقدية التي جمعتنا نحن الثلاثة فاضل ثامر وياسين النصير وعبد الجبار عباس أننا خرجنا معا في الستينات ننشر المقالة القصيرة والتعليق الأدبي وكان الناقد عبد الجبار أكثرنا حضورا في الصحافة والمجلات العربية . لكنه كان يخشى الحديث العلني في ندوة أو محاضرة فقد كان يفضل الكتابة على الحديث . شأنه في ذلك شأن جوانب من حياته الاجتماعية فقد كان فقيرا أو معدما ينتظر نهاية الشهر ليقبض النقود القليلة التي تمنحها الصحافة وفي هذه الدراهم ارتضى العيش في بغداد بعد أن انتقل إليها من الحلة يقاسمه شقته الصغيرة جمع من أدباء معدمين مثله وكانت هذه المعيشة المربكة افقدته الكثير من مقالاته التي سرقت أوالتي فقدت وهو في حال سكر أو بحث عن ماوى.
عاش ومات فقيراً أعزبا وكانت المرأة بالنسبة له عالما مبهما وغريبا لذلك لم يقترب منها رغم أن كتب عنها قصائد غزل كثيرة. وفي طفولته كما في شبابه كان زاهدا بالحياة يفضل المشي وحده والقراءة الصامتة والترقب الحي لما يحدث ينزوي في اتحاد الادباء ليلا فاتحا كيسا صغيرة ليقتات منه ما خزنه في جولته النهارية بين الصحف والمجلات ومقاهي الادباء. وفي هذه الحصيلة اليومية كان يطل على حركة الثقافة العراقية تلك التي تنمو في مراكزها الثقافية أو السياسية أو الشعبية.