((الحصان - قصة قصيرة)) ((نبأ حسن مسلم))
عندما تم إرسالي إلى هناك.. تحديداً إلى تلك البقعة المتأرجحة على كتف النهر كنت أحمل أوامر صارمة, مشددة وقاسية نوعا ما من قبل المدير الإقليمي للمصرف أرسلت ليس لأني أذكى موظفة لديهم أو الأكثر جرأة... فقد كنت مجرد موظفة عادية بدأت العمل كمحاسبة قبل عدة أشهر لا غير. لكنهم أرسلوني إلى هناك لأني كنت صديقة طفولتها وزميلة دراستها.. أرسلوني ببساطة لأني كنت أعرفها... أعرف هناء!!
أرتطم رأسي لمرتين أو ثلاث بسقف سيارة الكيا المبطن بنسيج قاس تتخلله أزرار ذهبية حيث كنت أحاول أن أطلب من السائق الفتي أن يخفف من سرعته فوق الأرض الوعرة لكنه على ما يبدو كان مشغولا حد التخمة.. فالأذن اليسرى يتدلى منها سلك سماعة بلون عاجي والأذن اليمنى مشغولة بالإصغاء لثرثرة راكب نزق. يجب أن أحتمل الأمر, فهذه الكيا هي كل ما حصلت عليه عند الخامسة فجرا حيث مواصلات النقل نادرة في هذا الوقت من الصباح الباكر خاصة إن كنت ترغب بالتوجه إلى بقعة خارج نطاق أبجدية الخرائط.
تعلمت من عملي السابق في الأرياف المنسية إن مضاعفة الأجر لأي سائق كان ستوصلك لوجهتك بلمح البصر فمن يرغب أن يحشر في خانة الانتظار قرب كشك شاي تفوح منه روائح غير سارة ويحيط به حشد محبط من العمال و الجنود الحاصلين على إجازات مستعجلة وهم يتبادلون الأحاديث عن الأعمال الراكدة والزوجات المتذمرات و أخبار الجبهات البعيدة حيث تقيم حرب منذ ثلاث سنوات طوال.
كانت لحظة منحوسة تلك التي فزت بها بسباق مضاعفة المبلغ للسائق الفتي.. الجميع رفض العرض ما عداي أنا وهذا الزبون النزق الذي حمل بضاعته من أكياس البطاطا والبصل والخيار المرزومة بعناية فضلاً عن وعائيين ضخمين من خليط الفلافل المتبل ببهارات ذات رائحة نفاذة.. في حين تناثرت رزم من الخس والطماطم وصناديق الصمون الحار ما بين المقاعد الخالية وسطح السيارة.. لكم أن تتخيلوا الوضع في الداخل و كأني محشورة بمقلاة ضخمة!!
أزاح السائق الفتي السماعة من أذنه وراح يستمع بضجر إلى رفيقه الإجباري وهو يحدثه عن مطعمه الصغير وعن الطريقة المثلى لإنتاج الشطائر... الخ, أما بالنسبة لي فلم أعد مهتمة بالاهتزازات العنيفة للسيارة العتيقة بل أشغلت نفسي بمراقبه الطريق حيث رحبت بنا و من على الجانبين مجموعات متباعدة من النخيل والقصب والدغل الطري.
توقفنا بعد ساعتين عند طرف طريق معبد بصورة جزئية.. كنت أشعر بغثيان مر وأنضح عرقاً بارداً.. سمعت ذات مرة إن حصول هذا الأمر خلال السفر بسبب إرسال الجسم إشارة إلى الدماغ مفادها بأنه قد تعرض للتسمم فيحصل ما يحصل رغم انه إنذار كاذب.. بالنسبة لي ينتهي الأمر عندما أغادر وسيلة النقل.. فحالما يلامس الهواء النقي وجهي المرتبك بذلك الإنذار الكاذب حتى تتوقف بصورة تدريجية فوضى الإشارات المتبادلة ما بين دماغي وباقي أجزاء جسدي المذعور ويسود هدوء لذيذ وناعم.. لكني حالما غادرت الكيا صفع وجهي هواء ساخن وثقيل مشبع برائحة الروث والدخان.. وكأن هذا ما كان ينقصني بالضبط!!
سلكت الطريق المعبد بمحاذاة النهر وهنا يجب العودة لمراجعة ما أملكه من معلومات أولية فقد زودني أحد زملاء العمل بموقع منزلها وأخبرني بأني لا يمكن أن أخطئ لأني وكما يقول أمتلك حدساً جباراً.. في حين كان بعض زملاء العمل يلقبوني بالصيادة وهذه القصة تعود جذورها إلى عدة أشهر خلت.. تحديداً إلى بداية عملي المصرفي حيث فقد ملف مهم يخص القروض المالية لأحد التجار الكبار ودار حديث حول هذا الاختفاء.
المريب وهمس عن إمكانية تزوير بعض الأرقام الضخمة... الخ لكني وبالمصادفة عثرت عليه خلف إحدى الخزائن حيث يبدو انه انزلق بصورة عفوية وظن الجميع حينها بأني من تنبأت بمكان تواجده حيث وعدت بالعثور عليه بعد أن سادت حالة من الإرباك بين العاملين بعد فقدانه.. ومن هنا جاءت أسطورة الحدس الجبار والصيادة. لكني حاليا أقف ببلاهة عند مفترق طرق مجردة من الألقاب, الهبات والأساطير.. لا أعرف أي طريق أسلك!!
مر على مقربة مني فلاحان يتمنطقان بمناجل فضية صقيلة ويبدوان منغمسين بحديث جاد حول أمور الزراعة لم ينتبها لوجودي أصلا على الرغم من إني كنت أشغل حيزاً لا بأس به من الفراغ حسب قوانين الفيزياء.. بالمقابل تهيبت من مقاطعة حديثهما الجاد فأغلب الرجال لا يكونون بمزاج جيد في الصباح الباكر.
شعرت بحرارة الشمس وهي تنطح رأسي ككبش عنيد.. اتجهت نحو سور أحد البساتين لأحتمي بالظل الشحيح الذي تفرضه نخلة فتية راحت تراقبني بفضول من أعلى السور وهي تمد نحوي ثمارها الخضراء المحببة.
يا لهذا الحر الشرس. فالوقت لم يتجاوز الثامنة صباحا لحد الآن !! تحركت مواصلة مهمتي وهنا تناهت إليّ مجموعة من الأصوات الحلوة و المتداخلة.. بدت كزقزقات لطيور تتشاجر بحب وألفة.. وسرعان ما بانت لي مجموعة من الفتيات أو بالأحرى طالبات بالزي الرسمي تتقدمهن فتاة بوجه منتفخ من لسعات البعوض. سألتهن عن وجهتي فأجابتني فتاة نحيلة عقدت عدداً من شرائط النذور الخضراء حول ذراعها وأقلامها..
((تريدين بيت هناء المخبلة)) وأشارت ناحية الغرب قبل أن تتحرك سريعاً وهي تحث الخطى لتلتحق بصاحباتها. هناء المخبلة!! ألا زال هذا اللقب البغيض يلاحقها حتى بعد كل هذه السنوات.
عرفت من الفتاة أيضاً إن سور البستان الذي تقطن به هناء مصنوع من ((BRC)) وليس من سعف النخيل الغليظ والجاف المرزوم بعناية كما هو معمول به في هذه الأرجاء. واصلت التقدم رغم شعوري و كأن آلة زمن ضخمة تحتمي داخل رأسي الجبار تعمل بطريقة معاكسة وهي تدفعني ككرة ملونة نحو شباك تلك الأيام المختنقة بالطفولة والعصارة المرحة... لم تكن هناء المجنونة الوحيدة فقد كنت أكمل جنونها وأنافسها عليه لكني لم أحصل على لقب مجنونة بصورة رسمية على الرغم من إن إحدى الصديقات قد أخبرت أهلي بأني لطالما مشيت لوحدي قرب سياج المدرسة وكلمت نفسي باعتزاز مفرط !!
كانت قائدة فريق اللعب طفلة خشنة ولا تسمح لي باللعب ضمن المجموعة.. لطالما أخبرتني بأن حركتي بطيئة ولا يستفاد مني بالجري والمطاردة لذلك يتم تعيني كحارسة أبدية لسجن افتراضي حيث يتوجب عليً منع الفتيات اللاتي يتم الإمساك بهن من الهرب أو من محاولة تهريبهن.. لكن هناء دائماً ما كانت تنقذني من هذا الذل الغير مُبرر. فحالما نصف أقدامنا لأجراء القرعة ونحن نرفع صدارينا النيلية إلى ما دون مستوى الركبة بقليل مستعرضات بذلك أحذيتنا البيضاء وجواربنا المسورة بالدانتيل الملون (حيث كنت أجد متعة في ملاحظة ما ترتديه الأخريات) حتى أشعر بكف يطبق على كتفي بقوة و فم صغير يهمس بأذني ((هل تريدين أن نلعب لعبة الأميرة و التنين؟)) فتجدني سرعان ما أسحب قدمي من صف القرعة و أسلمها يدي لنقفز سوياً إلى جزيرتنا الخاصة حيث الأميرات و القلاع والفرسان الشجعان و خيولهم الأثيرة و...و... أتوقف عن الحلم فجأة و تتعطل آلة الزمن داخل رأسي على أثر دوي ثلاث رصاصات أو أكثر من بندقية صيد ((يبدو بأن صياداً حقيقياً هنا)) أتمتم لنفسي بهذه الكلمات وأواصل السير مبتسمة بطريقة سحرية !!
وأخيراً انتهى الطريق المؤثث بالنخيل والأسيجة الخفيضة وبان النهر أمامي مباشرة كخيط من السكر وعلى اليسار تماماً وكما أخبرتني الفتاة القروية يرقد بستان فسيح تلتحم به أشجار التين والرمان وعرائش العنب بتناغم بديع ويتوسطه منزل ضخم من حقبة السبعينيات حيث النوافذ الواسعة التي تمتد بصورة شاقوليه من السقف إلى الأرضية المبطنة بآجر صغير(يتكون من لونين في العادة.. فتبدو الغرف كلها كرقعة شطرنج متصلة) والمحروسة بقضبان متينة وقاسية تذكرني بالسجن الافتراضي الذي كان يفترض بي أن أحرسه أيام المرح الطفولي والأبواب الخشبية ذات المقابض المذهبة و واجهة المنزل ذات اللون الإسمنتي المنقوشة يدوياً.
بأشكال هندسية لا نهائية والمدخنة المدببة كرمح صغير والتي غالباً ما ينتهي بها الأمر كمقر لأعشاش اللقالق بعد انتفاء الحاجة لاستخدام الحمامات التركية منذ عقود خلت. نعم إني أقف أمامه الآن.. أمام منزلها.. منزل هناء.
الأرض خارج المنزل حيث أقف رطبة ومليئة بتلال صناعية خفيضة تتخللها جحور مبنية على عجل حيث فاجأتني في أحدها كلبة بلون الرمل يحيط بها خمس أو ست جراء منهمكين بماراثون للرضاعة. استدرت محاولة إيجاد منفذ للدخول لكن على ما يبدو فأن هناء و كما أعرفها تبالغ بكل شيء فقد حولت المكان إلى ما يشبه الثكنة العسكرية حيث أحاطت البستان بثلاث أسوار من الأسلاك و المعدن (وأعتقد بأنها مكهربة حيث سمعت صوت مولد ينطلق من الجوار) فضلاً عن قناة مائية أشبه بخندق صغير تحيط بالبستان وتمتد خلف السور مباشرة. وأخيراً لمحت باباً معدنياً بلون ناصل.. بدا كعملاق خرافي وهو يمسك بدفتي السور.
أول شيء استقبلني كان مجموعة حظائر مهجورة استخدمت سابقاً كمفاقس للدجاج ولتربية الأغنام.. لاحظت أحدى الستائر تتحرك بحذر واستطعت أن أميز رائحة شاي ثقيل وخبز حار... فجأة شعرت بكف يطبق على كتفي من الخلف وفم صغير يهمس بأذني ((هل نلعب)) أكملت وأنا أستدير لألتحم معها بعناق أبدي ((لعبة الأميرة والتنين)) طوقتني بيدها الطليقة كما كنا نفعل سابقا في حين كانت تقبض على بندقية صيد باليد الأخرى.. لم أستغرب ذلك.. إنها هناء التي أعرفها.. إنها هناء وحسب!!
أخبرتني ونحن ندخل بأن الناس هنا مجانيين وعدائيين لدرجة لا تصدق.. لا ينفكون من إيذاء بعضهم البعض أو أنفسهم أن لم يجدوا شيئاً ليحطموه.. حتى أن بستانها قد تعرض للتخريب أكثر من مرة ولم تتمكن من تحديد هوية المهاجمين.. هل كانوا من المصرف بهدف إخافتها أم أنهم أولئك الفلاحين الذين يطالبونها بثأر شخصي.
ــ أنا من المصرف... لقد أرسلوني لك......
بالحقيقة لم تكن تلك جملة جيدة لأفتتح بها هذا اللقاء الودي بعد سنوات فراق مديدة بدوت وكأني أحمي المصرف وألمع صورته.. بدوت كأحد أولئك المهاجمين.. لن ألومها لو وضعت رصاصة برأسي الآن وهنا لكنها على ما يبدو قد تقبلت الأمر بطريقة غريبة, فخف احتقان وجهها وأرخت قبضتها على البندقية.. همست لي وهي تصفر((أنت من المصرف؟؟ لا تبدين كمصرفية.. أنت أميرة تقدم بها العمر!!))
سحبتني من يدي نحو مجموعة من الأرائك الحمراء النابضة بالجمال حيث جلسنا وسط صالة تعج بالسجاجيد المحاكة يدوياً والأنتيكات المتحجرة بالإضافة إلى صور العديد من أفراد عائلتها الموشاة بشريط أسود. راحت تثرثر وتضحك مستذكرة أشياءاً فعلناها وأخرى تتمنى لو نفعلها الآن. أجبتها بكلمات شحيحة ووجه غائم محاولة أن أذكرها بسبب الزيارة.. لا أعرف كيف يمكنها أن تضحك وهي على شفا خطوة من المصيبة.. مصيبة انتزاع منزلها وأرضها أن لم تسدد القرض للمصرف الملعون في غضون شهر من الآن.. ربما لم يبق لها شيء سوى الضحك لتهزم به قباحة العالم و قتامته.
توقفت هناء عن الكلام فجأة كجرار زراعي أصابه خلل مفاجئ.. سحبت الستارة بمهل لتندفع حزم الضوء الساخنة نحونا مباشرة, لم أعرف ما الغرض من هذه الحركة قبل أن تعود للكلام بشكل مباغت حيث أضافت بحزن أو هذا ما فهمته منها بأنها تحديداً وفي هذا الفصل القائظ كان يجب أن تكون قد سددت ديونها للمصرف, ليس هذا وحسب بل كانت تحلم بفتح حساب ثابت لها هناك. لو جرت الأمور بصورة حسنة لما كانت جالسة الآن هنا محاطة بخيبات العالم اللانهائية, بل كان يجب أن تكون في مركز التسويق الرئيسي تبيع محاصيلها أو توزع الأغنام وأقفاص الدجاج على المجازر الصغيرة المنتشرة على طول الطريق لكن الأمور لم تكن كذلك. أكملت إزاحة الستارة حتى النهاية وأضافت بأنها حالما استلمت القرض وظفت عشرة رجال من هذه الأنحاء للعمل في البستان وبدت الأمور جيدة ومتزنة لكنهم صاروا يتكاسلون ويصرفون النهار بالنوم بين الحظائر, وأنها قد حثتهم على العمل للحاق بالموسم الزراعي لكن جنونهم قد جن فقد اتهموها بعدم الدفع لهم وسرقة البذور والفسائل التي أحضروها للبستان.. والأدهى من ذلك كله هو أخبارهم للقاطنين هنا بأنها ساحرة وأرضها ملعونة لا ينبت بها الزرع كونها مسكونة بالجن وعلقت ضاحكة إنها سعيدة لكونها من ساحرات ما بعد الحداثة وذلك لأنها تحمل معها مصباحاً كهربائياً بدل فانوس بفتيل ذابل وكل هذا لأنها كانت تخرج عند الثالثة فجراً لتفقد توصيلات الماء المنقول مباشرة من النهر إلى البستان!!
أشارت إلى نقطة في عمق الحقل حيث لاحظت أشجاراً محترقة وأخرى قد سقطت قممها النامية إلى الخلف وعدداً من أشجار النخيل المقطوعة من المنتصف تماماً كالتماثيل الإغريقية, سحبت نفساً عميقاً كمن يدخن لفافة افتراضية وأضافت.. لقد توعدونا بمهاجمة الحقل.. وفي أحدى الليالي كشفت لنا البلاجكتورات الموزعة بانتظام فوق المنزل والحظائر مجموعة من الرجال الغاضبين يتمنطقون بأحزمة جلدية متهرئة ويتسلحون ببنادق صيد وعصي وسكاكين يقتحمون الحقل بغتة وهم يسحبون معهم مولداً للطاقة ومنشاراً كهربائياً حيث مزقوا الأشجار بلا رحمة وأضرموا النار بالمحاصيل... اتصلنا بالشرطة دون جدوى مما اضطرني أن أرد عليهم بإطلاق النار أنا وريس... ريس تعرفينه أليس كذلك؟؟ هززت رأسي بالموافقة في حين أكملت على النحو التالي.. لقد انسحبوا بعد ذلك بساعة أو أكثر تاركين خراباً كبيراً وبضع دجاجات نافقات. وفي الخامسة فجراً وصلت سيارة شرطة قديمة و ملطخة بالطين, استمعوا لأقوالي و أقوال ريس ثم قيدوا الحادثة ضد مجهول!! عملنا لأشهر أنا وريس لإصلاح ما يمكن أصلاحه.. ومدت يداها نحوي حيث كانتا طافحتين بالندوب و التشققات الجلدية المؤلمة و أضافت.. " ببساطة لم يسمعني أحد لأنه لا أحد لدي " لا أعرف كيف فعلوا ذلك بالحقل... يفترض بأنهم فلاحين يحترمون الأرض والأشجار !! قالتها وهي تنهض على عجل مبررة ذلك بأن هذا الحديث الطويل قد سبب لها الجوع و العطش.
اختفت خلف باب من الزجاج الملون, في حين عدت إلى تأمل صور أفراد عائلتها الذين تناقصوا بسبب الموت أو الهجرة أو أسباب أخرى قد لا أعرفها. هناء وكما أخبرتني بأنها قد وعدتهم ... وعدت صورهم المُوشاة بالغبار والشارات السوداء بأنها ستكون على قدر المسؤولية وستحافظ على هذه الأرض مهما حصل. لقد ضحت بالكثير لتتمسك بهذه الأرض.. إنها لم تولد هنا لكنها تشعر بأن هذه الأرض المهجورة تخصها وحدها.. علاقة غريبة تجمعها بالأرض و النهر, كم أتمنى من هؤلاء الأموات أن يقدروا جهدها وأن تعمل أرواحهم على حماية المكان و مباركته بدل التسكع في طرقات السماء بدون هدف.
تسللت إلى أذني قعقعة صحون وبعدها دخلت برفقة ريس المصري العجوز حارس البستان منذ ربع قرن.. لطالما حدثتني عنه وعن إخلاصه لعائلتها, حيث أبقته معها عند استلامها الأمور هنا لخبرته وأمانته ولأنه ببساطة لا يعرف غير هذه الأرض وهذا المكان. دخل قبلها وهو يتعكز على عصا غليظة من التين.. حييته باحترام كبير وأنا أراجع قصتها المشرفة عنه حيث أخبرتني بأنه قد أصيب بالاشتباك الأخير لكنه رفض التوجه إلى المشفى بسبب السين والجيم كما يقول. هو في طريقه للشفاء بسبب تدخل راج (وهو على ما يبدو هندي أنضم لطاقم العمل هنا بواسطة أحد مكاتب الهجرة والعمالة الأجنبية) الذي وصل إلى هنا مؤخراً وأشرف على علاجه بنفسه بطريقة مدهشة و كما أكدت هناء فأن ريس و راج يمثلان نعمة فريدة في هذه الأرض المسكونة بالأحلام.
تناول ريس العجوز الطعام معنا وأضفى جواً من المرح بلهجته المصرية ونكاته اللطيفة, بعدها أنسحب معتذراً لألم مفاجئ بساقه المصابة, وهنا اقترحت هناء أن نخرج إلى النهر فهو يحد البستان من جهة الشمال وما شجعها على هذا الاقتراح هو هدوء ثورة الشمس وتحول قرصها إلى ظبي بلون المشمش وهو يختبئ بين الشجيرات البعيدة. غابت مجدداً خلف الباب الزجاجي الملون لتعود بعد لحظات وهي ترتدي ثياباً سود واسعة وغريبة.. تقدمتني بضع خطوات وهي تهتف بحماس سنذهب برفقة ريس, أنا لا أخرج بدونه أبداً!!
تبعتها برأس محشور بسؤال صامت.. ريس مصاب كيف له أن يرافقنا؟؟ لكن لما أسأل أصلاً.. فمن يكون داخل الحلقة كما تقول هناء دائماً سيكون حاصلاً على شهادة الاهتمام الفائق. و قبل أن أكمل أفكاري الحسودة الخاصة بريس, كنا قد تقدمنا نحو المدخل الرئيسي حيث ترقد الحظائر المهجورة كحيتان نافقة. توقفت هناء وصفرت كولد محترف لعدة مرات.. تمركزت خلفها و ظللت عيني بيدي ورحت أرنو إلى النقطة المعشوشبة حيث تركز نظرها عليها كصقر مدرب.
على الرغم من أن الشمس الخفيضة كانت تصب لعنتها في عينيّ مباشرة ألا إني تمكنت من أن ألمح طيفاً لكيانين بلون مهتز. تقدم الطيفان بحذر خلف عرائش العنب حتى توضحا أمامي كلقطة ايقونية من فلم قديم. هتفت هناء وهي تصفر مجدداً.. أنهما راج وريس, الطيف الأول كان النعمة الإلهية كما تحب أن تصفه أنه الرجل الهندي ببشرة بنية كقشرة الأرض وملامح انسيابية كنهر الغانج, كان ببساطة أشبه بدمية مهرجانات بثيابه الواسعة والملونة. تقدم نحونا بعينين مغمضتين و قدمين عاريتين.. بدا و كأنه يستمع لإرشادات كونية, بيده اليمنى كيس من البلاستك متخم حتى المنتصف و باليد الأخرى حزام جلدي ناصل اللون.. توقف أمامنا مباشرة في حين تقدم الطيف الأخر معلناً عن تحرره من قبضة العرائش الخضراء السميكة.. انه حصان!! أجل انه حصان!! تراجعت بضع خطوات لأتحصن بمنطقة أمنة خلف كتف هناء المهتز بفرحة عارمة.
للوهلة الأولى ظننت بأن هذا الساحر الهندي أو النعمة الإلهية كما تدعوه هناء قد حول ريس العجوز إلى حصان لولا أن ريس (الحقيقي طبعاً) قد خرج من المنزل مبتسماً و ناولني براداً صغيراً قبل أن يقترب من الحصان ليدس بفمه قطعة تفاح حمراء بلون القلق الذي اعتراني.
أنه ريس... أليس جميلاً؟؟ وجهت كلامها لي قبل أن تغير الموجة بالاتجاه الأخر سميته ريس تيمناً بك يا عم ابتسم ريس العجوز وسحب أصابعه برفق من فم الحصان وعاد إلى الداخل بعد أن تمنى لنا وقتاً طيباً.
اختطفت هناء الرسن من يد راج بحركة مجنونة كما تفعل القردة عندما تختصم على قطعة فواكه جذابة بيد أن الأخير لم تبد منه أي حركة ولا حتى طرفة عين!! انه مشغول بقراءة الرسائل الكونية خاصته على ما يبدو !! مررت هناء يدها بحذر فوق عينيّ الحصان كما لو كانتا عيناها, أنزلت رأسه برفق وهمست شيئاً ما في أذنه.. ألصقت جبهتها على جبهته المُتعرقة ومسدت عنقه وأسفل بطنه... دست قطعاً إضافية من الفاكهة بفم الحصان وأمسكت بيدي محاولة أن تضعها على رأسه لكني اعتذرت بسبب الخوف, فلم يسبق لي أن اقتربت من حيوان بهذا الحجم من قبل. فأكبر حيوان صادفني بحياتي هو قط ابنة عمي الملعون سارق السمك!!
قفزت هناء بخفة كبهلوان مدرب واستقرت على ظهر ريس.. في نظري لم تبد هناء كفارسة وحصانها, بل كانت أكثر من ذلك... أنها أشبه بشيء ملتحم بالحصان... أشبه ببروز أنثوي ينبثق من السرج... قطعة واحدة مع الحصان ولا شيء أكثر!! وهكذا تحرك موكبنا الصغير, الهندي مغمض العينين, هناء التي بدت بصورتها الجانبية كإحدى الربات الإغريقيات اللاتي تنقش وجوههن المتوردة بالحكمة على القطع النقدية اللامعة, ريس الذي لا مثيل له و أنا.
أخبرتني هناء بأن راج بارك هذه النزهة القصيرة حيث كان يمد ذراعه الطليقة إلى الأمام كأعمى يتحسس طريقه في حين ركنت الذراع الأخرى ذات الأصابع الحبيسة بمقبض الكيس البلاستيكي إلى نوع من الهدوء الرائق بعد هزة مضطربة اعترتها قبل أن نتحرك جعلت محتويات الكيس الغامضة بالنسبة لي تئن بصوت غريب. مالت هناء بجذعها بحركة مرنة نحو عنقود عنب بلون غامق, قطفته من المحاولة الأولى ووضعته برفق فوق عمامة راج الذي فتح عينيه أخيراً مانحاً بذلك العالم شيئاً من الحكمة و القناعة.
هكذا انتهينا عند النهر... صادفنا مجموعة من الصبية, راحوا يهتفون (هناء المخبلة... هناء....) بأصوات منفرة كسرب غربان جائعة. رد عليهم راج بالتحية النازية.. بدا لي وكأنه يلقي لعنة صامته عليهم في حين قفزت هناء و طاردتهم حتى نهاية الطريق. أما أنا فرحت أتأمل امرأة بملابس سوداء على الضفة الأخرى من النهر... لا يبدو بأنها قد لاحظت أو سمعت شيئاً فقد كانت مشغولة بغسل مجموعة من أواني المطبخ المحاطة بهالات من سخام أبدي. عادت هناء لاهثة كدجاجة عطشانة وهي تجر جسدها المترف بالبدانة, جلست بالقرب مني وراحت تحدثني بغبطة بالغة عن ريس الحصان بعد أن أفرغت ما بصدرها من شتائم على رؤوس الصبية الملاعين كما أسمتهم.
أذن هذا هو ريس... سليل الخيول الدبلوماسية العريقة بلون ثلجي كحليب القمر. قائمتاه الأماميتان محجلتان بسواد شبحي, في حين ترصع جسده المهاب دوائر متناهية الصغر بلون الفحم. كان أجداد ريس ينقلون بالقاطرات برفقة الجنود الهنود و يوزعون على الثكنات العسكرية الانكليزية قبل قرن من الزمان والجدير بالذكر انه في هذه الأصقاع قد شيدت ثكنة انكليزية محصنة لكن الثوار سيطروا عليها أبان ثورة العشرين وكانت حصة جد هناء الأكبر هذه الخيول الملكية النادرة حيث رفض بقية الثوار أخذها للونها الغريب.. لكنها أثبتت قوتها وجدارتها حيث ساعدت الثوار على سحب ((الطوب)) الثقيل ونقل صناديق الذخائر التي غنموها من الانكليز عبر الحقول الوعرة و هكذا تم الاحتفاظ بهذه الخيول من قبل الجد الأكبر لهناء الذي صار مولعاً بها لدرجة أنه أقام هذا البستان على شرفها و يبدو بأن ريس هو الأخير من تلك السلالة كما هو الحال مع هناء.
غطست هناء ذراعها بالنهر كأم تختبر الماء الخاص بحمام طفلها.. أخبرتني بأن حرارته مناسبة لحمام سريع لريس و أشارت لراج بأن يباشر بتحميم الحصان . أدى راج صلاة سريعة عند ضفة النهر قبل أن يتعرى حتى المنتصف و يدخل الماء برفقة ريس. غمرهما الماء ببطء و رقة و كأن حلفاً سرياً قد تم عقده بين الطرفين, في حين كبس القلق على وجه هناء فهي المرة الأولى لريس في النهر. أكثر ما أدهشني حول راج هو أنه عندما حل عمامته استعدادا للنزول إلى قلب الماء, بان من تحتها شعر أشقر طويل مجدول بعناية قصوى وملفوف كثمرة كرنب بماشات لماعة.. في الحقيقة بدا ظريفاً وغير شرير كما توهمته للوهلة الأولى... حتى أن هيئته المسالمة قد ذكرتني بالأميرة رابونزل!!
ازدادت لطافة راج أكثر عندما هرع لمساعدة صياد اشتبكت مقدمة قاربه بدغل كثيف حيث سبح نحوه بحرفية كسمكة و دفع القارب بعيداً عن الدغل. حرك الصياد قاربه نحونا وشكرنا بأدب وقدم لنا سلة سمك... كان السمك مقرفاً برائحة نتنة حيث تم صيده بالسم على ما يبدو. على أي حال, أعاد راج السمك إلى النهر بمجرد ابتعاد الصياد ثم عاد إلى الضفة ليؤدي صلاة أخرى... ربما صلاة خاصة بأرواح السمك النافق الذي أعاده قبل برهة للنهر!!
تململ ريس داخل الماء.. هز رأسه وصهل بخفوت ثم راح يدور حول نفسه بعفوية قبل أن يشب على قائمتيه الخلفيتين ويجن جنونه كأن أحد شياطين البستان قد استوطن جسده الباسل. الخوف أجبرني على التراجع نحو صف من النخيل الفتي راحت هناء تصرخ بكلمات غير مفهومة وهي تلوح بثمار التفاح بيدها في حين قفز راج إلى النهر ووقف إزاء ريس المجنون وراح يتحرك بصورة غريبة.. تحرر شعره الطويل من قيوده المعدنية وأنفرط فوق الماء كخيوط هاربة من مغزل ذهبي أخذ يقلد حركات ريس العنيفة والقاسية وكذلك صهيله المتقطع وكأنه يتحول إلى حصان حتى ريس الذي بدا لي للوهلة الأولى كصبي بشري بعرفه الأسود الناعم بدا لي الآن حصاناً أيضاً.. مكتملاً وحقيقياً بدون أساطير. الزمن على ما أعتقد قد توقف عند تلك الرقصة الذكورية الخالصة.. لا شيء في الخلفية البصرية سوى راج وريس و هما يرقصان حول بعضهما البعض بحركة دائرية مبهمة غاطسين في بعد أخر لا يمت لعالمنا بشيء من الشبه.
اندفعت هناء بثبات نحو أقدام ريس وسحبت شيئاً ما بحجم قطة ورمته بالقرب مني.. حصل كل ذلك في جزء من الثانية ومن دون المساس برقصة ريس وراج الكونية. ((إنها سلحفاة)) صاحت هناء بجزع وهي تشير إلى كتلة مبهمة بدرع صخري تستقر عند قدميّ و أضافت ((ريس لم يشاهد سلحفاة في حياته!!)).
تماماً كما يحصل في اللقطات البطيئة أو كما يفعل ممثلو البانتوميم أنزل راج يديه بهدوء وبصورة تدريجية.
وكذلك فعل ريس.. سكنت المياه من حولهما وساد صمت غريب, تقدم راج من ريس ووضع جبهته على غرة الحصان المبلولة في حين التحم شعرهما بطريقة فكاهية. اقتربت هناء من ريس وهمست شيئاً ما.. شيئاً حلواً على ما يبدو بأذنيه المتأهبتين كمنظومة مراقبة عسكرية وكذلك فعل راج ثم سحباه بهدوء خارج الماء وجعلاه يستلقي على العشب الندي وأطعماه ثماراً طازجة فقد كان مرعوباً ومنهكاً. جلست هناء بالقرب مني وهي تلهث مجدداً كدجاجة عطشانة ثم ما لبثت حتى انحنت نحو الدرع السلحفاتي الصلب وراحت تلكزه بأطراف أصابعها في محاولة يائسة لحث الأخيرة على أخراج رأسها المحتجز بهالات من الجلد المتقرن فهي مدينة باعتذار للجميع!!
انهمك راج بصلاة طويلة نسبياً فقد سجد بخشوع قرب الضفة وأخرج من كيسه صورة للإله راما وصوراً لمزارات متنوعة فضلاً عن أعواد بخور وشموع ملونة وصحون نحاسية صغيرة. أخبرتني هناء وهي تسند رأسها على كتفي بأن راج هندوسي مؤمن وأن كل حدث يحصل هو بمثابة أشاره سماوية لشيء ما يتعلق بحياتنا الخاصة. بعد برهة أخذنا نراقب أضواء الشموع الخافتة المحاطة بدخان شفاف وهي تنطلق إلى عمق النهر المظلم في حين تحرك موكبنا الصغير بالاتجاه المعاكس.. أنا وهناء بالمقدمة نتابع حديثنا عن سلالة الخيول المراوارية التي أعتاد راج أن يكون سائساً لها في بلده الأم, في حين تبعنا الأخير مع ريس الذي كان يعرج بشكل غريب و مؤلم.
تبادلنا الحديث قرب البوابة حيث تنتظرني سيارة أجرة كما وعدني ريس العجوز.. على مقربة منا راح راج يشرح بشيء من الحزن العلامات القاتلة التي صادفتنا مساء اليوم لريس العجوز وهو يعيد تكبيل شعره الذهبي بقيوده المعدنية اللماعة. اقتربت من ريس.. ريس الحصان ووضعت يدي على جبهته الساخنة, لم أكن خائفة بل كنت أشعر بنوع خاص من الطمأنينة والسلام الداخلي. دسست مبلغاً من المال بيد هناء التي رفضته بشدة ونصحتها بأن تستعين بمحامي, صحيح أن الأمر أشبه بوضع شخص ميت في غرفة الإنعاش لكنه سيمنحها شهراً إضافياً من المماطلة التي لا جدوى منها.. بالواقع لم أرغب بإحباطها فالمصرف حيث أعمل يمتلك جيشاً من المحامين القساة والشرسين نوعاً ما!!
هذا كل ما يمكنني أن أقدمه لها في الوقت الراهن.. اتفقنا أن نبقى على تواصل وخططنا لنزهات قادمة برفقة ريس بعد زوال الأزمة ووعدتني بأنها ستجهز سرجاً خاصاً بي وستعلمني أصول الفروسية واستخدام الأسلحة. سررت بذلك وغمرتها بأمنيات شتى فأخيراً سنكمل حلقة جنوننا الطفولي ونغلق طرفها المفتوح على أحلامنا إلى الأبد.
حالما غادرت ارتسمت لي على نافذة سيارة الأجرة لوحة أخيرة للبستان ولهناء الصارمة وهي تصطحب حصانها الأثير نحو إصطبله يحيط بها راج وريس كملاكين حارسين.. كم أتمنى أن تنام هناء هذه الليلة بسعادة أتمنى لو يغني لها ريس العجوز بعض التهويدات الطفولية وأن تساعدها أعشاب راج وصلواته على الراحة فهي تستحق أن يبذل كل الجهد لها. أريدها أن تنام بهدوء وسلام و أن لا تفكر بإشارات السماء السيئة.. فحتى السماء قد تخطئ أحياناً!!
بعد شهر أو أكثر بقليل لمحتها بالمصرف.. كان يتقدمها محامي شاب من ذوي البدلات المستأجرة والحقائب الجلدية الصغيرة كانوا على عجلة من أمرهم حيث راح الأخير يدفع من يعترض طريقهم بمنكبه النحيل في حين تبعته هناء بوجه متقلص الملامح كمن يبتلع ليمونة مرّة دفعة واحدة وهي تكبس بيدها على مجموعة من الأوراق الملونة. قفزت نحوها بقلب يدق بعنف كخشبة مخلوعة من سياج طويل.. أخذت بيدها وجلسنا سوياً حيث أخبرتني بأنها قد أنهت المسألة المالية مع مصرف النحس وأن أرضها بخير ولا يمكن لأي كان انتزاعها منها بعد الآن. سألتها بلهفة عن الحصان وريس العجوز وراج فأجابتني بصوت محزون.. ككمان يجهش بالبكاء. (( الحصان.. لـقـد بعـته.. لـقـد بعـت الحصان!! )).
- 22nd February 2018 (مشاهدة: 2551)