جدلية اليومي والمألوف في قصيدة النثر - زهير الجبوري
اهتم شعراء الحداثة في العراق بالقصيدة المطلة على اليومي والحياتي, وعلى الظواهر التي اخذت نمطا فكريا لقراءة وتمفصلاته الدقيقة, ولم تغور في دائرة الحس التعبوي الذي يشتغل على دلالات المديح والهجاء, بل اخذت تعكس ذلك في منطقة غاية في الحساسية, هي منطقة القصيدة التي تنفتح على البنى الدلالية الفاعلة والعاكسة للواقع الاجتماعي/السياسي, الفكري/ الذاتي, وقد اثار ذلك العديد من شعراءنا المعاصرين.
القصيدة عندما توقظ ادواتها اللغوية لقراءة حالة معينة تأخذ على عاتقها شعرية الـ (الزمان.. المكان.. الحدث, المشهد) وتكشف عن قصيدة فاعلة لما يبتغيه الشاعر وهو يبحث عن غاية, بمعنى ان هناك ظاهرة.. هناك ايحاء.. هناك فعلا حركياً/عقلياً انتجته جملة مسببات, وفي الوقت ذاته هناك ( ذات) توقد هذه الظواهر وتلتقط افعالها ونتاجاتها, وفي النهاية تصبح القصيدة ذات معنى ناضجاً ومكتمل الدلالة.
صحيح ان مفهوم القصيدة اليومية لم تقف عند مسمية محددة, او لم نجد لها وقعاً اجناسياً بين القصائد المعاصرة رغم ان هناك محاولة تأسيسية لها في مطلع العقد السبعيني, لأعرف لماذا لم تأخذ توسعها؟ الا ان شعراءها ومتلقيها, مع اختلاف الحالات التي تكتب فيها, كما(ان جميع العصور والاجيال الادبية عرفت القصيدة اليومية, وقد اختلفت دارسوا القصيدة اليومية حول شعريتها واتفقوا على جوهرها المشترك. ((فور ذوث)) يراه في التكامل بين الحدث المألوف والمظهر الخلاب, وكتاب الواقعية يرونه في التكامل بين الرؤية البصرية والشعور, والسبعينيون يعتقدون انه في التكامل بين الفردي والجماعي والجزئي والكوني).
واذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان القصيدة اليومية فعلاً انتاجياً يحتمل عبر نضوجه مميزات البناء الابداعي وقدرة وصولها الى الاخر/المتلقي, فان هناك عناصر مهمة واساسية في بناء القصيدة التي لها حراكها اليومي المؤثر, وهي بلا شك تتميز بخيوط ابداعية راكزه, وقد حلل (جاكبسون) العملية الابداعية وشخصها في ستة عناصر, وهي:
1- المرسل او المبدع.
2- المتلقي او المرسل اليه او القارئ.
3- الرسالة والمضمون.
4- الشفرة او لغة النص والسياق.
5- الظروف المحيطة بعملية الابداع والتراسل.
6- غرض الاتصال.
في جديد النص الشعري/النثري, نرى انه انسلخ من اطار البناء الفني ومسمياته, ودخل عبر المضمون الى الواقع اليومي لغرض كشف. الواقع هذا عبر العلامات المتراكمة في يومياتنا, واستطاع الشاعر ان يدخل مضمار اليومي ويصوغ الاشياء برؤى جديدة او كما يقول ( كروتشة) (ان مهمة الشاعر ان يصور الشيء كما يراه وينقص على بوادره ويخطف في لمح البرق اشكاله المتغيرة ويجعلنا نحس هذا الشيء كما يحسه هو) ان جل ما تقدمه قصيدة اليومي والمألوف انها صاحبة صوت معلن, لم تقف خلف بناءاتها الفنية او اشتراطاتها الايقاعية, انما تطرح نفسها عبر ثنائية المضمون والمعنى, والغاية منه بالدرجة الاساس قراءة الواقع بأسلوب شعري اكثر انفتاحا, حينها تقع كل ادوات اللغة مرنة بيد الشاعر يصوغها مثلما يريد حيث لا تمركزات ثابتة ولا حالات مرهونة بشروط معينة, انما هناك اتجاه اوسع في بناء القصيدة المعاصرة, ولعل ما نلمسه من تعدد كبير وتطور ملموس في ميادين المعرفة, قد ساهم كثيرا في تحويل النص الشعري من منطقته الذهنية المتعالية الى ايقاع الواقع وجدليته الاجتماعية والفكرية والنفسية.
ولعل فهم القصيدة النثرية المطلة على اليومي والمألوف اخذت طابعا القائياً خاصا عند الكثير من كتابها, وصنفها البعض من النقاد الى(مرتبة المقولة الجمالية), واثيرت الى اللحظات هذه مسالة فهمها وكيفية تأسيسها وتناولها وتطبيقها, لكننا ندرك انها لم تأخذ جعجعات المشككين بها, بل انطلقت بمستوى فهم عال في قراءة الواقع, او هي اقرب ما يكون الى (فهم بودلير في كون قصيدة النثر منفتحة بطبيعتها على اليومي والواقعي والجزئي), لكنه انفتاح متناسق يقابله المعنى, ( ليس النثري مقابل الموزون بالضرورة).
ان من صميم اشتغالات القصيدة هذه وتصنيفها ودخولها اليومي والمألوف وقراءتها الانواع الادبية الاخرى, تلك التي حللها ولخصها الناقد حاتم الصكر, مبينا امتلاكها خصائص ومزايا داخلية تظهر بالتحليل النصي وتسلط القراء عليها:
1- انها قصيدة قراءة تخاطب عبر الجسد الورقي عيني القارئ لا اذنيه.
2- انها تستفيد من نصها وافلاتها من التجنيس في الافادة الى الخصائص السردية, لاسيما الازمنة والامكنة ولغة القص والتسميات والحدث.
3- نعني بالإيقاع ذلك المكون الذي يهب قصيدة النثر مزاياها الشعرية الخاصة.
4- انها تولد إيحاءات لامعاني, وهذا يؤكد كونها قصيدة دلالية.. لأنها تدع الجانب الصوتي غير مستقل شعرياً.
5- انها قصيدة كلية لا جزء فيها يغني عن سواه, كما انها لا تدرك بالملفوظ وحده.
من جانب آخر, اخذت قصيدة النثر تنحى منحا حداثيا معاصرا, اذ افاضت في لبس ثوبها الجديد بمفهوم النص والغور في فتح تمركزات الجملة النثرية بما يلائم فنية الكتابة الشعرية الجديدة واكتشاف بالإحساس بالواقع, (فالنص هو الاسم الجديد للعمل الادبي شعراً ونثراً), وهذا ما ادخل في الفنون الاخرى.
في كثير من الدراسات التي تناولت. قصيدة النثر وهي تعمل على خرق قوانين الشعرية السائدة, فأنها في الوقت ذاته عملت على تجاوزها, منطلقة في ذلك من تحطيم الحواجز التي يمكن ان تواجه الشاعر في عملية خلقه الشعري, (كما سعت جادة, ليس الى ازاحة الاشكال الشعرية السابقة او الموازية, وانما الى فرض حضورها, باعتبار الحضور الاكثر فعالية في هذا الظرف التاريخي).
واذا اطلعنا بعين فاحصة عن اهم ما كتبه الشعراء في المجال هذا, تظهر امامنا الكثير من القصائد والكثير من الاسماء التي لازمت في نصوصهم في اليومي والمألوف برؤى مختلفة, منها:
اولاً: ما يكشف عن قراءة الواقع المكاني (مشهدياً), كما في قصيدة (ظهيرة جمعة في برج السعدون) للشاعر جليل حيدر, حيث انسراح الواقع عبر دلالات مشحونة برؤية عيانيه تداخل فيها الاحساس الذاتي للشاعر وهو ينطلق لتكريس مشهديه المكان في بؤرة زمنية موثقة, فاستطاع ان يحول خيوط المشهد اليومي الى مشهد محكوم بضوابط القصيدة ذاتها:
هكذا هي بغداد: جملة عصبية وعبور غيبي
في بداية حز الرؤوس الى الصلوات
وانفجار ومحابر, شارع يطوى عن الكتب
خضر سود, خشية جحيم محلي, ولحى خلف الحدود
هكذا هي بغداد: سجال بين هاوية ومنائر..
يطالعنا المقطع هذا بالسياق الذي استحوذته شعرية اليومي والحياتي بطريقة مفعمة بهواجس الاسئلة وبمشهديه المكان المفعم بالاضطرابات, وقد طالعتنا بعض العبارات وهي تكشف عن ضياع وجه مدينة لها عمقها الثقافي والفني, لذلك كانت عبارة(هكذا هي بغداد) وجها صريحا بعيني الشاعر، باغتراب ملامحها وسجالها المفعم بالهاوية, كما ذكر النص الشعري ذلك
ثانيا: ما يكشف عن المخزون اليومي بطريقة تأملية/هاجسيه, كما ذكر في تجربة الشاعر رياض الغريب, فالغريب يرى ان الكتابة الشعرية(الكلام باعتباره المخزون اللغوي غير المنفصل عن اساسه الاجتماعي العام), الامر الذي فتح منافذ الواقع الشعري / اليومي ليأخذ حضوره في القصيدة.
في مجموعته (واقف بانتظاري) كشف الشاعر حقبة مهمة من شعرية اليومي وحياة الانكسارات التي فرضتها عوامل عديدة تحت مسمية, وظل الشاعر الغريب ينحى هذا المنحى في قراءة مفردات اليومي والمألوف حتى لحظاتنا هذه, فكانت قصيدته (بلاد ترتجف) نموذجا للعديد من القصائد, يقول:
اليوم تسولت من صديقي
خمس لترات من النفط
كنت هادئا وطيبا
وانا امد يدي
لأحمل كرنفالا من الدفء
القصيدة بالشكل الذي لمسناه في شعرية الشاعر, انها تمسك بعلاقات الاشياء مع بعضها وبتفاصيل السلوك الحياتي ليخلق من الحراك اليومي شكلا تأمليا بهواجس مقنعة, كما يرى الشاعر ان السلوك اليومي انما يشكل وظيفة شعرية يجب الامساك بها, هي في الوقت ذاته اداءات يومية, لذلك جاءت العبارات (تسولت. كنت هادئا وطيبا.. امد يدي.. احمل كرنفالا من الدفء), كلها عبارات انغمست بأيقونات الواقع الاجتماعي والسياسي..
من جانب اخر, نلمس محورية (الذات) المتأثرة بقبحية الواقع اليومي, وان كان القبح اليومي له دلالاته الجمالية بوصفها تمسك بسلوكيات القمع اليومي المتأثرة, حيث بنية اللا توافق بين الواقع والذات(الذات الشاعرة), تخلق جدلية النص الشعري القائم على علاقة تنافر قصدي داخل القصيدة, لتنهض فاعلية(انا) الشاعر في النص:
اليوم فقط عرفت
اني افشل مواطن في العالم
وان وجهي في المرايا وجه مغفل ويستحق الشتيمة
ورأسي يستحق ان تحلق فوقه الطائرات
اليوم فقط عرفت
عندما عدت فرحا
وانا احمل انكساري
خمس لتراث من النفط
لاشك ان تجليات التوتر الشعري طافحة في التفاصيل المرسومة في المقطع هذا كما نمسك بما يسمى بـ(الفجوة الدلالية) للواقع اليومي وللقبح السسيوسياسي المفعم بانهيار الـ (انا)–انا الشارع– فكانت تحمل دلالات الهاجس الحياتي المعاش:
فجوة (الفشل): اني افشل مواطن في العالم
فجوة (الاغفال): وجهي في المرايا وجه مغفل
فجوة (الشتيمة): ويستحق الشتيمة
فجوة (الدهشة): راسي يستحق ان تحلق فوقه الطائرات
فجوة (الانكسار): انا احمل انكساري .
كذلك انبثق من كون الشاعر انسرح بقصته بالواقع اليومي والحياتي وبمفردات اكثر تداولا في المألوف, مؤكدا ان الانفعال الشعري, انفعال مبار للكيان (الذاتي) و(الاجتماعي).
ما يسحب المتلقي لقراءة شعرية رياض الغريب ايضا وهي تغور في تفاصيل اليومي/ الانفعال, هي بنية, وقصدية الحدث المرتبط بزمان ومكان, لم تقف على شواهد مألوفة فحسب, بل اتسعت في مضمونها الى منطقة اوسع من كونها شعرية, قضية وجدودنا المعاصر, نقرأ:
انه الليل
ما الذي يفعله مواطن خائب
في بلد
سأرسم فوق جدران الغرفة
قرب متحف الاصدقاء
البلاد عام 2007
ياه.. خمس لتراث من النفط
تشبه.. طائرات تمر.. واطفال يرتجفون
1- ما يكشف عن مفارقة, اليومي, كما في قصائد الشاعر جواد الحطاب, اذ يستخدم الحطاب بنية اللغة الشعرية للكشف عن الواقع بسخرية النص المنفتح على دلالات سياسية راهنة وبخيوط مفعمة بالهم الاجتماعي والنفسي, ولعل طريق الكتابة بانت في قصائده بعد ان ركز على بنية المفارقة, معتقدا انها طريقة المؤثرة لنقد الواقع, نقرا في قصيدته(ثوم على الامة جاجيك على الايام):
في صحتكم اصدقائي
ايها الشعراء العراقيون
يامن تجوبون, الآن, شوارع العالم
سأدعوكم الى كاس عرق, وكاسه لبلبي
لقليل من الجاجيك بالثوم
ثوم على ايامكم ايها السادة
ثوم على الامة.. جاجيك على الايام.
نلمس هنا, كيفية استخدام المفردات الشعرية بنمطية اليومي وبالسلوك الحياتي المتداول, وكان الشاعر يدرك ان ما يدور من مهزلة في واقعنا المعاصر لابد ان تطرح بأسلوب شعري/نصي..
جواد الحطاب, شاعر يبحث في قصائده عن قبح الواقع, وينتقل عن طبقات بنائية متعددة مدركا ان جدلية اليومي هي (عرقة العقل ونتاجه المعرفي) ولربما وقف الشاعر عند المنطقة هذه من خلال الصدمات والانفعالات والواضحة في قصائده.
- 22nd February 2018 (مشاهدة: 2204)