ثلجٌ أحمر - القاصّة السورية فاتن بركات
قصة مهداة الى ارواح شهداء بلدي وأخص عدرا العمالية (الشهيد المهندس نزار حسن, الشهيدة ميسون محلّا, وولديه الشهيدين كريم 17عاما وبشر 4أعوام)
شاله الصوفيُّ الأحمر , ما ان يرتديه , حتى يعلمَ الجميع أن ثمّةَ قراراتٍ مصيريةً ستُخذ, وأخيرا نطقها: قررت أن اصبح ملحدا
هذا الأمر فاجأ من حوله لدرجة اتهامهم له بالمسّ الشيطاني, بل ان زوجته قالت: مسكينٌ منذ اندلعت هذه الحرب اللعينة, وامتنع عن الصلاة والتدخين والشرب, صار عصبي المزاج متقلبَ الاهواء, اذ ليس من المعقول ألا يكون للشيطان يد في إلحاده, لكنها في قرارة نفسها, كانت تعلم أنه لم يمسسه أي شيء, انها قناعاته طوال تلك السنين من معادلاته الفكرية, جعلته أكثر ثباتا على موقفه غير الطارئ, جدران بيته امتلأت فيما مضى بقصاصات ورقية عن رجال الدين وتفاحتهم, وصور العلماء وتفاحتهم !!!! فقد كان يقول دائما: لولا تفاحة آدم ما وصلنا لتفاحة نيوتن, غير أن العبارة لم تكن كذلك, بل هل حقا تستوي تفاحة آدم مع تفاحة نيوتن؟ وعليها كان تثور وتفور النقاشات.
في احدى زوايا بيته انتصب هيكل عظمي مثبت على قاعدة معدنية, والى جانبه مجسم جصي لوجه دارون, والى اليسار منه , توجد مكتبة اصطفت الكتب السماوية تشبك اصابعها بحركة عشق ووله, وبجانبها شمعدان النذور والبخور وكل طرق اللف والدوران حول جلالته..
قلق... جدل... صراعات.... لطالما حرمته متعة النوم, لتنتهي بعدّ النعاج وشعوب الماع كما يحلو له ان ينعتهم ....
وفي كل مرة تحتدم الاشتباكات مابين حملة الرايات السوداء وبين أبناء الشمس, يصرخ:
أكله من اجل الله
أم من اجل حورية.... /مهزلة/
ومع كل نقطة دم تسفك على امتداد البلد, كانت نقاط دمه تتخثر فوق وحول جراح العاشقين للحياة , ثم لما الدماء ؟ لما قرابين البشر هي وحدها قرابين التقرب من عرشك وجبروتك.....(يصمت بينما لسان حاله يلهج /عفوك/)!!!!!!!
ومن قاع صمته صرخ: لقد كفرت_ فقدت ما أملك, مشيرا الى قلبه وعقله, يقف بالقرب من نافذة بيته المطل على خراب البلد, أقسم أنه رأى الشيطان بعينيه وهو يتنقل مزهواّ..
يتذكر يمين الشيطان في النص القرآني(وعزتك وجلالك لأغوينهم)...يرفع كفيه بحركة الابتهال: ارحمنا - أحقا أصبحت ملحدا؟
.. لااا لم يكن يوما الحاد فالأمر كله لا علاقة له بالدين.. لكنه تذكر أن أول حب له, كان في الهند في رحلة تثقيفية ترفيهية, وهناك في أحد المعابد كانت أمامه, صبية هيفاء فاتنة من بلده, كان قد يئس من كل فتاة التقاها, حتى أنه بصم بالعشرين مؤكدا: لو أن الله محبة كما يدعون فأين محبوبته تلك التي ستقربه من الله, ومن يوم التقاها وهو يؤمن بالله وبكل ماهو محبة!!؟؟؟ وكم كان يحلو له الغناء لها : صومي خمسينك واصوم ثلاثيني
اذا ما القصة.. ان لم يكن الحادا؟! فهل هو حافة الجنون؟ ثم ماذا عن الايمان؟؟
لابد أن اجد حلّا يرضي جميع أطرافي المتصارعين داخلي, انقسمت الى معارضة ومولاة ولا وجود لطابور خامس ولا حتى سابع .ولشد ما اثارني موقف المعارضة, كانوا يتحلقون حول إلههم ,حيث بدا مخيفا يقتات على اجساد الأبرياء , لتزداد دهشتي أيضا مع الموالاة فقد كان الههم أنس طرب ويدورون في الزوايا حتى التلاشي والالتقاء بالروح الخالدة تسبقهم قرابين هابيل .
زوجته المصرة على مواكبة تبدلاته النفسية والفكرية كانت تضمه كلما شارف على الاختناق :
- هون عليك حبيبي
- كفرونا. سيذبحوننا , هناك من وشى بهذه, مشيرا الى الهوية , سنموت....
ينظر اليها والى ابنته التي بدأت بتعلم أوقات الصلوات الخمس ونوافلها ومبطلاتِها
الى أن فاجأته بسؤالها: أبي متى سنذهب الى جهنم؟
أجفله سؤالها كصفعة ردته من عالم الغيب..
رد بدهشة : وحسمت الأمر؟؟!! وللحظةٍ خُيّلَ اليه, بأن ابنته التي لطالما حملت كتبا ..دفاترَ رسم.. وآلة موسيقا, ربما ستستبدلها يوما بسكين, فراح يصرخ محموما:
متى سأذهب الى الجحيم ؟!!!
متى سنذهب الى الجحيم... ؟ ومن قال بأننا لسنا في الجحيم؟!, وان لم يكن كذلك فمن اين تخرج كل هذه الشياطين , ومع آخر كلمة نطقها , كان ذلك الشريط الأحمر على احد القنوات الفضائية, يذيع خبر تفجير أحد دور العبادة وأشلاء المصلين تفترش المحراب.
شعر بقشعريرة تدب في جسده الأشعث, هتف: أريد حبا .. أريد حبا .. زوجته كعادتها راحت تحضنه بقوة, وكذلك فعلت صغيرته, أفلت من بين أيديهم قفز الى وسط الغرفة وشرع يغني بصوت عال : ديني لنفسي ودين الناس للناس.. راح يرفع صوته أكثر وأكثر, عادت فاحتضنته زوجته: سيسمعوننا سيتنبهون لمكان اختبائنا..
- لم يكن الحادا يا حبيبة كان عشقا عشقا, , فتح ذراعيه و راح ينده : الله يا حلاج أين أنت يا امام العاشقين ؟
انضم لصوته صوت حبيبتيه: ديني لنفسي ودين الناس للناس.. كان صوتهم حلوا عذبا
رقصّوا غنّوا وبدروشة الدراويش داروا وداروا, تبادلوا نخب العشاء الأخير .. ضحكهم غناؤهم نبهّ خفافيش الظلام حولهم ..
في تلك الليلة المثلجة القارصة, كانت المدينة تستعد لفجر دموي ..داخل بيتهم علت حناجرهم بالغناء.. وفي الخارج كانت اصوات التكبير تهلل للحور العين, خناجرهم لا تقل حدة عن حناجر الراقصين , اكتمل حفل العشاء , هذه المرة ضم زوجته وابنته بقوة , لم يكن للدمع قيمة, أفلت من يده قنبلة, ومن قال أن ما يفصل الحياة عن الموت يمكن ان يكون شعرة؟ وبلحظة صمت... تعالى صوت حشرجة انفاسهم.
جدران بيته.. الصور.. الهيكل العظمي, ووجه دارون لٌونت بالقاني العاشق, كشاله الصوفي الأحمر, وحدها الكتب السماوية لم تلطخ بالدماء الدافئة.
- 31st May 2020 (مشاهدة: 3260)